نص مفخّخ «أناه» مثقفة!

طلال مرتضى

المغامرة السردية الكامنة بدهشتها منذ المطالع… لعل التصنيف هو أيضاً مغامرة القارئ العليم/ الناقد التفكيكي، فالوقوف على نواصي الدوال وحده لا يعطي حق رمي المفاتيح النقدية جزافاً. فالدوال متوالية تأخذ القارئ عبر حلقات يربطها حبل سري نحو المضمرات، والمضمر ذاته يكنه في داخله السرّ، هو بيت السر الكامن ظل أكواد مخبوء فيها بيت القصيدة «الكناية».

في المطالع يتلمس عابر الحكاية بأنه وقع في شرك الحياة، المرأة والرجل، الذكر والأنثى، الحب والكره، الحقيقة والزيف، الحضور والغياب لمرة تالية بعد كذبة الحياة العادية الأكثر تضاداً، بل اللعبة التي جررنا إليها قسراً.

أن تقرأ لتملأ الفراغ، فهذا ما يطلق عليه من باب تصالح الذات، بناء جسر آمن للعبور يكسر ريتم رتابة كل ما هو مموسق ظاهرياً حولنا وموشى بألوان خادعة يراد منها لفت الانتباه إلى ما تشي إليه تصاوير الحضور..

أن تقرأ لنهم قاتل وجوع معرفي، جائز بكل ممكنات الذهاب نحو إرضاء توهّج القريحة التي تقتات على كل ما هو جديد، مغاير، ملتبس، أيضاً أقول هو حق يراد منه اكتساب قدرات جديدة..

كل ما تركته أعلاه لم يكن يدور في فلك المربع الذي أتخبط به كعربة دخلت حيّزاً موحلاً، يستحيل التجديف به ظل ما هو على طاولتي الآن. وهنا أقول: تلك عنجهية الكاتب، القارئ، العليم، الذي يعرف من أين يؤكل سكر الحكاية، فإيقاع القارئ الشغوف ليس بالمهمة الأيسر من افتنان النص الكتابي.. لأقول مجدداً، بأن الكاتب اللئيم هو من يولم لنصّه القارئ قبل الشروع بالكتابة، فتلك مهمة صعبة جداً وقلة ممن يمتهنون الاشتغال عليها، من باب أعلى بالسؤال، أي منا ككتاب يُقدمون على تأليف القراء قبل دلق حبر أرواحهم على نواصي الورق؟

ما بين يدي نصّ مائز، لم يفتتني نصّ قبله، نصّ سادي بكل معطياته، نصّ منفتح بكل اتساعات المدارك، نص غاوٍ، نص متواتر أقرب لسلم موسيقيّ تتعالى دندنات وتره كلما شففت بروحك، نص من داخل الحكاية، مربعي، مربعك، مربعها، مربعهم، نص هادف من المؤكد أنه سيصيب عابره بلوثة الصرع، ونص مستهدف أنا أقولها بالحبر المجرد والمشرد على وجه الصحيفة لن يدعوه يمر مرور الآمنين.

مقتل اللعبة والتي ولدنا على فطرتها كبشر، هي أن يغمض أحدنا عيونه ليتوارى الآخر الاستغماية ، لتبدأ عملية البحث. لعل البعض يذهب بالحال عن ماهية البحث كغاية بحد ذاتها ولربما البعض ممن اجترعوا تلك اللعبة أرادوا منها قصة الدهشة والاكتشاف، لا كما يظنّ البعض الانكشاف.

انتهت اللعبة، اصمتوا لبرهة.. لم يزل هناك مَن يتمتم.. يثرثر.. التململ ممنوع.. وأنت تمسك الصحيفة بكلتا يديك حاول جاهداً أن لا تصدر حفيفاً لأوراقها.. حاول حبس أنفاسك.. وأنتم.. انصتوا.. انصتوا بإمعان لرجع الصدى في أرواحكم.. اسمعوا جيداً كيف تشظى زجاج لعبة «الاستغماية» على بلاط حواسكم الباردة.. الآن.. افتحوا عيونكم.. لتكن أنت مرآة لمن يقابلك وبالعكس.. إنها الحقيقة.. سقوط ورقة توتك.. توتها.

الانكشاف التام، لا ضيرَ أن تتنامى بك للحظات حكاية الغريزة الحيوانية، هي فرصتك/ فرصتها، الآن لتعويض كل الخسارات السالفات عما يدور في فلك نفسك من أهواء، هنا لا تابوهات، أنت حر.. لا تحمل أي شيء من آثام الحياة، بياض أنت من داخلك إلى مداك القصي.. منقّى. هل هو التعفف أن تتلمس تفاهة اشتهائك بأصابعك المشتعلة ثم تعرض عن قضمها؟ وأنتِ.. ما بك؟ تواً تحررت من كل أغلال الحياة، صرت ملكاً لك وكل ما هو محسوس ملك لك أيضاً، أعرف كم كنت تتوقين الوصول إلى تلك اللحظة لتجسدي دور الآلهة الأكبر، أنت الآن على عرش الإلوهية يحق لك ما لا يحق لغيرك.. هل هو التسامي البحث عن التكامل الأبدي؟

ماذا حصل؟

سؤال لا يمكن تحقيق إجابته من دون تعرية، الكشف عن ماهية أي شيء تبدأ من تعريته، وغير ذلك تبقى المحاولة هي ملامسات خارجية يُراد منها الحضور الضوئي الذي يأفل سناه بعد أن يذوي فتيله.

في سردية اللبناني عبد الحليم حمود والمعتبة برافع «يوري إله السمكة السوداء» الذي صدر مؤخراً عن منشورات «جمعية حواس الثقافية الاجتماعية» 2018 بيروت، يذهب القارئ إلى ما يريد أو يشتهي، فالحكاية أولمها كاتب لئيم حدّ المقت، كشرك لا يمكن تحاشيه مطلقاً، فهو مؤثث لغايته هو بعينه، عينه الراغبة في البحث والتمحيص، يريد قصداً الوقوف على جوانية كل منا، يريدنا أن نأتي إلى كوة الاعتراف بتخفف وبعيداً عن أي قيود أخرى، لهذا اشتغل بدأب على تحقيق مرامي انكشافنا.

كاد يقول لك بالقلم الصريح ماذا تريد؟ المعرفة.. موجودة. الطب.. موجود. السحر.. قائم. الجنس.. مباح. الإيمان وضده.. واقعان. هي.. بك. أنت.. بها.

في لعبته هذه كل شيء ممنوع، ومباح أيضاً… فالولوج من بابها العالي لا يحتاج لبهرجة، مفاتيح أبوابها وسراديبها معلّقة على أول سطر، أين تجدك.. خذ مفتاح روحك وأدخلها آمناً شرط التخفف من «أنا» الذات.

لقد اشتغل عبد الحليم على نصّه بعناية الكاتب العارف وفكرة الطبيب المكين، فهو لم يسلم أياً من مفاتيحه لعابري الحبر جزافاً، بل جرّهم من حيث لا يعلمون إلى التخفف من كل الأدران لهذا كان انتصاره عارماً..

بعيداً عن تلك الرسائل التي كتبها كحكيم لعرافة طريقه، والتي خانته فطرته هذه المرة بعدما دسّها كسم زعاف أثقل كاهل نص السردية الشائقة، لربما أراد تجسيد دور غادة السمان وغسان مع تعديل طفيف في الحكاية، أي تبديل الأدوار، جل ما يمكنني ترك إشارة استفهام هو يعي مضمرها؟! وبعيداً عن تلك السلطة التي وقعت أسيرها والتي جرتني لقراءة تلك السردية لمرة واحدة كوجبة شهية بعد جوع، سأقول كلمة فصل، يراد منها فقط رد جميل المتعة القرائية لمن أفتعلها لي، بأن «يوري إله السمكة السوداء»، هي حكاية النفس البشرية جمعاء بكل طيوفها والمتخففة من كل شيء إلا منها.

النص الذي جيّر له الكاتب أكثر من مئة دال ومدلول مما ترافد عبر روايات الأسلاف والأساطير والقصص والأفلام وافتعالات الحياة اليومية، أشي بأن أطلق عليه، وستقعون في لجته، النص المثقف .

كاتب سوري/ فيينا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى