في عاشوراء كلام لا بدّ منه
ناصر قنديل
ما يستحقه الاحتفال بذكرى استشهاد الإمام الحسين شهادة، بعيداً عن البعد الديني الذي يتولاه أهل الجدارة بالتكلم في الشؤون الدينية، وبعيداً عن الطابع العاطفي الاحتفالي للمحبّين والمريدين، بأنه شخصية نادرة في التاريخ، لجهة الموقف الذي رسم نهاية حياته بطريقة درامية، ليسجل حقيقة أننا نستطيع أن نحيا ونخلد في الحياة بعد مغادرتها، بتحويل الموت إلى طاقة خلاقة هادرة تنتقل عبر الأجيال، ونادرة هي الحكاية التي تفعل فعل سيرة الحسين لموت شخصية قيادية فكرية سياسية دينية، وتبقى حية وتزداد مفعولاً في إثارة المشاعر وشحن النفوس لأكثر من ألف عام.
لا يمكن لأيّ مؤرّخ معاصر، الفصل بين سيرة الحسين، والبيئة الثقافية لصناعة حركتين تاريخيتين معاصرتين، هما الثورة الإيرانية والمقاومة الإسلامية، حيث شكلت شهادة الحسين للحق وصولاً إلى الموت في سبيله مدرسة لاستنهاض الآلاف من الشباب، الذين صنعوا انتصار الثورة في إيران، والذين شكلوا القوة الحاسمة لانتصار المقاومة في لبنان، وبوحي هذين النصرين وهديهما تجذّرت التجربتان لتتحوّل إيران والمقاومة، إلى الرقمين الأشدّ صعوبة في صناعة الموازين الاستراتيجية في الشرق الأوسط، فلهما النصيب الأكبر في إعلان نهاية أسطورة القوة «الإسرائيلية»، ومشروع الهمينة الأميركية، وتالياً الحقب السعودية الوهابية والتركية العثمانية والقطرية الإخوانية، التي تشكلت منها مشاريع السيطرة الأميركية على المنطقة، حدث كلّ ذلك لأنّ المشروعين لم يكتفيا بالقوة العاطفية التي تنتج الاستعداد للتضحية، بل لأنّ المشروعين نجحا في التعبير عن البعد الوطني لتاريخ شعوب المنطقة وحقوقها من جهة، واعتمدا العلم والحداثة في صناعة الحرب والسياسة من جهة أخرى.
يشكل زمن ظهور «داعش» الاختبار الأهمّ الذي يواجه هذين الانتصارين، فهو يختلف عن مجرّد مشروع تفتيت وتقسيم، كذهاب السكان الأصليين في جنوب السودان او السكان الأصليين لكردستان العراق نحو الانفصال وتأسيس كيان، يسهم في تفتيت المنطقة على أساس عرقي أو ديني، لكنه مختلف، باعتباره تعبيراً عن خيار لسكان أصليين، ليس كيان «داعش» مجرّد مشروع فتنة وتقسيم على أساس مذهبي، الواضح جداً أنه مشروع كيان استيطاني أجنبي، لاحتلال أرض في بلاد المشرق ولإقامة دولة «وعد إلهي» عليها لحساب «شعب الله المختار» في «أرض الميعاد» وتجميع المستوطنين على أساس العقيدة الدينية المفترضة، من أنحاء الدنيا، يهجّرون أهلها الأصليّين ويذبحونهم، كما فعل من قبلهم رواد أميركا من الأوروبيين بالهنود الحمر، ورواد جنوب أفريقيا بحق السود، واليهود الوافدين إلى فلسطين بأهلها، ويستوطنون مكانهم، وينضمّ إليهم من هاجر من بلاد المسلمين إلى الغرب وعاد إلى «دار الخلافة « أو من استهوته أو أرعبته دماء التطرف والتوحش.
مصدر التحدّي هو أنّ إيران والمقاومة في الحيّز الجغرافي والسكاني، يقفان أمام محك القدرة على استئصال الكيان الاستيطاني الجديد، لتثبيت البعد الاستراتيجي لنصريهما، وليس خافياً حجم العلاقة بين ولادة هذا الكيان، والحرب المفتوحة من الغرب على مشروعي صعود إيران وانتصار المقاومة، وتماماً كما نجح مشروع الكيان الاستيطاني لليهود في فلسطين في إجهاض مشروع القومية العربية، يُراد للكيان الاستيطاني الجديد أن ينجح في إجهاض التوازن الاستراتيجي الجديد، الذي وضع «إسرائيل» وتركيا والسعودية خارج نادي اللاعبين الكبار.
صلة هذا التحدي بسيرة الحسين، هي أنّ النصر على المشروع الاستيطاني الأجنبي، يتوقف اليوم على تقدم مشروع المقاومة كمشروع قادر على الفصل بين المعركة مع هذا الكيان الذي يتخذ الغطاء الديني المذهبي، وبين أهل المذاهب التي يريد تأليبها على المقاومة وقواها، ولفهم متجدّد وجريء لسيرة الحسين دور كبير في إنجاز المهمة.
فسيرة الحسين تتمة لسيرة علي، والقضية تبدأ من فهم لا مسايرة فيه، تقول بالوضوح، قضية علي لم تكن يوماً مزاحمة أسلافه من الخلفاء على البيعة، وقد منحها لأبي بكر وعمر، وليس من أتباع علي والحسين من ينصّب نفسه أحكم وأعلم منهما، ليفتح باباً جديداً في الحديث عن الأحقية، ولا يمكن ان يكون من أتباع الحسين من يعتبر تفاهمات الحسن موضع تشكيك، فالفهم الشعبي لدى غالبية السنة والشيعة سطحي وغرائزي، ويحتاج مواجهة شجاعة، لم يكن هناك سنة وشيعة في عهد علي والحسين، والمذاهب ولدت مع الإمام جعفر الصادق، وتلامذته هم الذين أسّسوا المذاهب الأربعة للسنة، ولم يطلبوا الخلافة كأستاذهم، لأنّ الإمامة شيء مختلف عن الخلافة، وعلاقة الإمام بالخليفة، أيّ الحاكم، معيارها العدل وليس الدين ولا التديّن، والخلاف المزعوم بين السنة والشيعة عقائدياً لا يعرفه أغلب أتباع المذاهب، التي بقي مؤسّسوها تلامذة يحترمون أستاذهم جعفر الصادق ويستنيرون بهدي علمه وفقهه، ولا مكان عند علي والحسين لمن يفتح حساباً، ينال من أصحاب النبي وزوجاته، وإعادة تقييم صحة سلوك الأئمة أنفسهم بل وسلوك النبي نفسه.
عصبية الخلاف السني الشيعي طارئة، لا صلة لها بشهادة الحسين، الذي كرّمه أهل مصر والمغرب وحلب ودمشق وبغداد وسامراء وكرّموا أخته زينب، وهم من السنة الأقحاح، العصبية أسّس لها تاريخياً العثمانيون، باعتبار الحكمين الأموي والعباسي، قد لقيا رفض فقهاء السنة قبل فقهاء الشيعة واعتبروهما، حكمين ملكيّين، لا مكان للحديث عن البيعة لخليفة فيهما، بينما أعاد الأتراك العثمانيون، دمج الديني بالسياسي، بعدما أخضعوا وسجنوا وقتلوا كلّ من عارض البيعة لخليفتهم من فقهاء السنة، وأعلنوا الخلافة وجعلوها أساساً لحرب مذهبية ضدّ الشيعة، لاستثارة عصبية مذهبية تشق صفوف العرب المسلمين، وتتخذ من بينهم أتباعاً يبايعون نظام الاحتلال الطوراني السلجوقي الآتي باسم الخلافة، ويسجل التاريخ أنّ الذين ثاروا وقاوموا هذا الاحتلال من قادة المذاهب السنية ورجالاتها الفقهية، كانوا طليعة المقاومة للاحتلال العثماني، بمثل ما كانت كنائس الشرق عنوان مواجهة حملات الفرنجة التي أسميت بالحملات الصليبية.
أعادت الوهابية الوافدة من نتاج المخابرات البريطانية إحياء العصبيات المذهبية، لتفرض لحضورها مكاناً بين أهل السنة، في خدمة ثنائية كشفها مناضلون ومفكرون من الحجاز أمثال الشهيد ناصر السعيد، بين كيان آل سعود في جزيرة العرب، والكيان الصهيوني لليهود في فلسطين، واليوم مع تقهقر المشروعين الصهيوني والسعودي، يتقدم مشروع «داعش»، بالجمع بين ميزاتهما، كيان عقائدي استيطاني لاحتلال أجنبي، ومشروع لفتنة مذهبية تتخذ من عصبية الشيعة والسنة غطاء لها، وهي تقتل من أهل السنة الذين تدّعي تمثيلهم المئات والآلاف، كحال عشائر البونمر في أنبار العراق.
في ذكرى عاشوراء، تتجدّد ثورة الحسين، لما يتعدّى قوة الدم في الانتصار على السيف، لقوة العقل في الانتصار على الغريزة، وهذا هو التحدي الأهمّ لضمان النصر في الحرب الجديدة.