جورج جرداق 1931 – 2014 … المبدع الأصيل والمتعدّد
توفّى أمس الكاتب والشاعر جورج جرداق عن عمر 83 عاماً، وتقام مراسم الجنازة في الساعة الأولى من بعد ظهر غد الجمعة في كاتدرائية مار نقولا للروم الأرثوذكس في الأشرفية، على أن ينقل جثمانه إلى مسقط رأسه في جديدة مرجعيون.
ولد جورج سجعان جرداق عام 1931 من والد مهندس بناء، «في بقعة سكانها عرب حقيقيون، يتحدرون من أسر عربية عريقة، أما البيئة البيتية فكانت من جماعة الفكر والعلم والأدب والشعر، وتأثري الشديد كان بـ «أخوي فؤاد»، بحسب السيرة الذاتية التي كتبها بنفسه.
بعد انتهاء دراسته التكميلية في مدارس جديدة مرجعيون، انتقل جورج جرداق إلى بيروت، ليلتحق بـ «الكلية البطريركية» عام 1949. منذ ذلك الحين، سكن بيروت وسكنته، من دون أن ينفي ذلك حنينه إلى الجذور وتواصله مع الأهل والأصحاب في «الجديدة». ويرد خصب فكره وذاكرته إلى اختياره الكلية البطريركية الذائعة الصيت بتخريج أقدر الطلاب في اللغة العربية وآدابها. «كانت مهمة جداً بحاضرها وقديمها، فالشيخ إبراهيم اليازجي، أكبر علماء العربية على الإطلاق، كان أحد أساتذتها في القرن التاسع عشر، ومن تلامذته خليل مطران شاعر القطرين. درست على يد الأديب المعروف رئيف خوري، وعلامة عصره فؤاد أفرام البستاني مؤسس الجامعة اللبنانية، وكان أستاذ اللغة والأدب الفرنسي الشاعر ميشال فريد غريب الذي كتب شعره بالفرنسية»، يضيف في سيرته.
في هذه الأجواء، كان من البديهي أن يؤلف جرداق كتاباً في سن باكر، ففي الثامنة عشرة من عمره كتب باكورته «فاغنر والمرأة» عن الموسيقي والفيلسوف الألماني عام 1950. ونظراً إلى أهمية الكتاب، قرر الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، إدراجه ضمن لائحة الكتب التي على طلاب الدكتوراه في الأدب قراءتها بإمعان، كذلك أصر أحد المستشرقين الألمان على مقابلة جرداق ونال إذنه في ترجمة كتابه إلى الألمانية.
عام 1953، بعد تخرجه من الكلية البطريركية، انتقل جورج جرداق إلى التأليف والكتابة في الصحف اللبنانية والعربية، وإلى تدريس الأدب العربي والفلسفة العربية في عدد من كليات بيروت في الوقت نفسه. استهل عمله الصحافي في مجلة «الحرية»، ويقول عنها: «كنت أكتبها من الغلاف إلى الغلاف، وكنت أحرر مقالات وأوقعها بأسماء صارت لاحقاً معروفة لدى أصحاب الصحف، حتى إن أحدهم طلب مني أن أعمل عنده، فرفضت». ولعل من أهم محطات حياته اختيار أم كلثوم قصيدته المشهورة «هذه ليلتي» ليصدح بها صوتها وتمسي إحدى تحف الغناء العربي.
عمل أيضاً في مجلة «الجمهور الجديد» ثم انتقل إلى «دار الصياد» عام 1965، وكتب في مجلة «الشبكة» وفي صحيفة «الأنوار»، وكان من أركان كتّاب المقالة في منشورات «الصياد».
عام 1960 أطلق سلسلته الفكرية المشهورة «موسوعة الإمام علي»، فصدرت منها تباعاً خمسة مجلّدات، أتبعها بمجلد سادس وهي: «علي وحقوق الإنسان»، «علي والثورة الفرنسية»، «علي وسقراط»، «علي وعصره»، «علي والقومية العربية»، وحمل الملحق عنوان «روائع النهج». في موسوعته يستشهد جرداق بقول لميخائيل نعيمة: «يقيني أنّ مؤلف هذا السفر النفيس، بما في قلمه من لباقة، وما في قلبه من حرارة، وما في وجدانه من إنصاف، قد نجح إلى حد بعيد في رسم صورة لابن أبي طالب، لا تستطيع أمامها، إلاّ أن تشهد بأنّها الصورة الحيّة لأعظم رجل عربي بعد النبي». طبعت الموسوعة أربع مرات في ثلاث دور نشر مختلفة خلال سنة واحدة، وتشير الإحصاءات إلى أنّ أكثر من خمسة ملايين نسخة طبعت منها حتى اليوم. يقول: «بالطبع لا أجني قرشاً واحداً من هذه المطبوعات التي ترجمت إلى الفارسية والأوردية ـ لغة مسلمي القارة الهندية ـ والإسبانية والفرنسية. وعندما أحتاج إلى مجموعة عربية أو أجنبية أشتريها، فيما لم تكلّف دار نشر واحدة نفسها أن ترسل لي نسخة هديّة من باب رفع العتب».
في صيف 1967، أقام الموسيقار محمد عبد الوهاب عاماً كاملاً في لبنان، وسكن في جوار جورج جرداق. كانت السهرات لا تحلو للموسيقار إلا في فندق «لامباسادور» في بحمدون، نظراً إلى إطلالته على وادي «لامارتين». ذات يوم، قال له ملحن «يا جارة الوادي»: «تحدثت اليوم مع أمّ كلثوم عبر الهاتف، وسألتني عنك وعن إطالة غيابك عن مصر. تهديك تحياتها وتريد منك أغنية للموسم الجديد». يخبر جرداق: «صار كل ليلة يسألني أين أضحت القصيدة؟ وفي إحدى الليالي، وكان معنا يوسف وهبي وإحسان عبد القدوس ونجاة الصغيرة وفريد الأطرش، وشوشني عبد الوهاب بأن نخرج إلى الشرفة المطلّة على الوادي. وهناك رحت أدندن بعض أبيات الشعر، فطلب إليّ أن أعيدها على مسمعه، وصاح هذه القصيدة التي نبحث عنها». وكان أن غنّت كوكب الشرق «هذه ليلتي» على المسرح القومي في السودان، في 30 كانون الأوّل عام 1968، بعد عام على كتابتها، إذ أخّرت إطلاقها بسبب النكسة. قال عبد الوهاب عن صاحب القصيدة: «إن في شعر جورج جرداق من الموسيقى، ما لا يستطيع اللحن أن يجاريه أو يدانيه».
ولأنّه صاحب مزاج طريف، شديد الميل إلى الأهاجي والفكاهة، تهاجى مع الأخوين رحباني اللذين يتميزان بمثل مزاجه، مدة ستة أشهر كاملة، على صفحات «الشبكة» في أطرف معركة هجاء تابع الجمهور فصولها فصلاً فصلاً: «اتفقنا عليها بالمصادفة، صدّقها الجميع إلاّ عبد الوهاب. عندما قرّرنا إيقافها، صرخ بنا سعيد فريحة: بتخربولي بيتي، إنني أطبع 250 ألف عدد إضافي».
صديق المرأة وحبيبها، ظلّت الصحافة الأقرب إلى قلبه، بعيداً عن «زواريبها اللبنانية التي هي مرآة المنافع الشخصية». مثلما أحبّ الصحافة، أحبَّ الاشتراكية، ويقول: «تأثرت بأستاذي رئيف خوري، وببيئتي وبالناس من حولي، ورحت أقارن بينها وبين السياسة، فإذا بها قائمة عندنا على مبدأ «الفاجر يأكل مال التاجر».