الميثاقية «لعبة» نظام المذهب والإقليم

د. وفيق إبراهيم

عودة المشككين المحليين للحكومة من مرحلة التلويح بحكومة أكثرية إلى رحاب حكومة الائتلاف تكشف عن عودة قوى الإقليم الى التفاوض على حكومة جديدة للبنان، لا «تقتل الذئب ولا تُميت الغنم».

بداية هناك حوار يتولاه الوسطاء من مصر وفرنسا والأردن بخلفية أميركية مع إيران المتمتعة بتأييد سوري ـ روسي، وبنقاط شديدة القوة في الساحة اللبنانية، إلا أنها لا تستعملها بكاملها.

وحال اللبنانيين في هذه الأيام كحال الجندي جورج الذي كان يقود سيارة عسكرية للواء بريطاني في الحرب العالمية الثانية. وكان أهل الحي الذي يسكنه يلحّون عليه يومياً لسؤال قائده عن موعد انتهاء الحرب… ومرة عزم على تنفيذ المهمة وما أن همّ بالالتفات الى الجنرال الجالس على المقعد الخلفي حتى بادره هذا الأخير بالقول: متى تنتهي هذه الحرب اللعينة عزيزي جورج؟

أليس حال اللبنانيين في هذه الأيام كحالة هذا الـ «جورج»؟ لذلك يتنسّم الخبراء مواعيد اللقاءات الطارئة بين السياسيين والسفراء و»القناصل»، متفائلين بلقاء الصدفة بين وزيري سورية والبحرين في الأمم المتحدة حيث تعانقا بحنان لافت.

وينتظرون أيضاً الرئيس ميشال عون الذي يغادر لبنان غداً، ليعود في أواخر الأسبوع، ما يجعلهم يعتقدون بإمكانية ولادة الحكومة في منتصف الأسبوع المقبل وقد تتناهى إلى مسامعهم أخبار عن مساعٍ فرنسية أردنية مصرية، نجحت في فك الحظر السعودي «المبدئي» على تشكيل حكومة لبنان إلى مرحلة القبول بها إنما وفق تمثيل كبير للقوى المحسوبة عليها في أحزاب المستقبل «الحريري» وقوات جعجع و»اشتراكيّي» جنبلاط.

وبـ «دهاء» تركت الرياض أمر حزب الله الى عدوانية «إسرائيل» وشروطها، مقابل تعهّد فرنسي مصري بالتفاهم مع الأميركيين على هذه النقاط.

هنا يمكن القول إنّ الوصول الى نتيجة لهذه المساعي أمر ممكن، شرط تطبيق ما قاله رئيس المجلس النيابي نبيه بري عن ضرورة «التنازلات المتبادلة والمتوازية»، وليس مجرد الاتكاء على عقوبات أميركية يعتقد بعض اللبنانيين أنها قادرة على تقليص الدور الحكومي لحزب الله.

إنما كيف يمكن التأكد من انّ خيار حكومة الأكثرية ولّى إلى غير رجعة؟

يجب الإقرار بأنّ حكومة الاكثرية هي ميثاقية في جانب وتعكس نتائج الانتخابات الأخيرة في جانب آخر. وتظهر ميثاقيتها في اضطرارها الى احتواء ممثلين لكلّ المذاهب والطوائف، لكن ليس على أساس انتمائهم للكتل الكبرى فيها، وتعكس أيضاً نتائج الانتخابات لأنّ مشكّليها لديهم القدرة على تأمين غالبية نيابية لها إنما من كلّ الطوائف. فبذلك تكون الأكثرية ميثاقياً وديمقراطياً في آن. وهذا ما لا يقبله زعماء الطوائف بما فيهم مَن يهدد بالنظام الأكثري كوسيلة لفرض تنازلات على الطرف الآخر في ظلّ حكومة ميثاقية لا تحتوي إلا على الكتل الكبرى في مذاهبها. وهذه تريد القضاء على المعارضات في مذاهبها وهوياتها.

هناك إذاً عودة إلى حكومة ائتلافية وميثاقية وسرعان ما تتبادر إلى الأذهان أسماء حزب الله، حركة أمل، التيار الوطني الحر، حزب المستقبل، الحزب الاشتراكي، حزب القوات وتيار المردة، وهي القوى المذهبية الأساسية وهؤلاء يمثلون نحو أكثر من مئة من أصل 128 هم كامل المجلس النيابي. أما القابل للحرمان من الحكومة فهي المعارضة السنية التي نافست «المستقبل» الحزب السني الأساسي المدعوم من النسبية ونجحت بالاستئثار بعشرة نواب من أصل 27 هو كامل حصة السنة في المجلس النيابي. شيعياً يحتكر مقاعدهم الـ 27 حركة أمل وحزب الله بشكل أنه لا يمكن تشكيل أيّ نوع من أنواع الحكومات إلا باسترضائهم لأنهم قادرون على إحداث أزمة ميثاقية، فبمجرد رفضهم الدخول في أيّ حكومة يتسبّبون بمنعها من التشكيل مسبقاً.

وهذه قوة فريدة لا تمتلكها أيّ طائفة لبنانية أخرى، يمكن أن تضاف إلى دور حزب الله الإقليمي والشعبي ما ينتج حالة لبنانية غير مسبوقة، يجب أن تتمثل في الحكومة بما يعادل إمكاناتها وتحالفاتها.

يتبيّن بالاستنتاج أنّ الفوارق بين «الأكثري» و»الائتلافي» ليست أكثر من لعب على الألفاظ وخوافات لا قيمة فعلية لها، لأنّ «نظام المذاهب» والداعمين الإقليميين والدوليين له حريصون على نظام يؤمّن لهم «وضع يد» على لبنان بشكل كامل. وهذا يتطلب الدعم الخارجي للتكتلات المذهبية الكبرى وعلى المستويات كلها.

هناك تساؤلات عن أسباب رفع الحظر السعودي على تشكيل الحكومة؟ والاستجابة من القوى الإقليمية الأخرى لها؟

يجتاز الأمير محمد بن سلمان أسوأ مرحلة منذ توليه ولاية العهد، فكلّ مشاريعه تعثرت في سورية والعراق واليمن، ولم يتمكن من وضع يده على قيادات آل سعود على الرغم من سياسات السجن والعقوبات التي مارسها عليهم، ويستشعر أنّ نقمة السعودية بدأت تزداد وتظهر في وسائل الاتصال الاجتماعي.

ونتيجة لما يمارسه الرئيس الأميركي ترامب على الدولة السعودية من تحقير واستهزاء وسخرية مع استمرار في سرقة المال السعودي واستنزاف هذه الأسباب تقف وراء عودة آل سعود الى الموافقة على تشكيل حكومة لبنانية لهم فيها دور أساسي، خصوصاً بعد خسارة أدوارهم في معظم المشرق العربي، وهناك من يتحدّث عن رغبة أميركية مستجدة بتغيير محمد بن سلمان من ولاية العهد واستبداله بأمراء من تيارات منافسة داخل آل سعود. لذلك يحاول محمد بن سلمان استحداث مواقع قوة له في الإقليم من لبنان إلى القرن الأفريقي ليصبح حاجة أميركية ليس بوسعهم الاستغناء عنها.

هذه هي المعطيات التي أملت عليه الاستجابة لمساعٍ فرنسية، قد يكون هو شخصياً من شجّعها على التحرّك في الوجهة اللبنانية لحفظ «ماء الوجه».

لكن دون هذا التشكيل خلافات على تمثيل بعض القوى، فهل يقبل حزب الله بعدم توزير حلفائه من الأحزاب الوطنية وعشرة نواب من السنة المستقلين.

هل يمكن لحلف أمل ـ حزب الله الاستسلام لرفض الحريري تمثيل عشرة نواب سنة نجحوا في لوائح منافسة له، بالإضافة إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي وجبهة فريد هيكل الخازن، هل يقبل التيار الوطني الحر بعدم تمثيل النائب طلال ارسلان لاسترضاء جنبلاط؟

تشكل هذه العقد مدخلاً الى تفجير عملية التشكيل لأنّ حزب الله ـ أمل لا يستطيعان التخلي عن حلفائهما التاريخيين، فكيف الحلّ إذاً..

الجواب موجود بعد عودة الرئيس عون من رحلته… وعند جورج الذي لا يزال حائراً في موعد انتهاء الحرب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى