هل نحن بحاجة اليوم إلى شعر الومضة؟

د. باسل بديع الزّين

تَكْمُنُ قيمة كلّ ما هو جديد ومُبتكر في القطيعة الّتي يُحدثها مع المعارف السّابقة، والعمق المنظوريّ الّذي يُقارب فيه أيّ وجهة نظر، مع كلّ ما تستدعيه تلك القطيعة وذلك العمق من تحسّس الأزمة أو الأزمات النّاشبة في ميدان من ميادين الفكر والأدب والثّقافة والعلم.

وفي السّياق عينه، تبدو مسألة التّنظير مسألة استكشافيّة ترود ما هو قصيّ وقابع في دياجير وجوديّة نائية يجري القبض عليها تارّة بالحدس، وطورًا بالعكوف الجميل على نقل الحيِّز الإمكانيّ لفكرة بعينها إلى حيِّز الوجود اللّفظيّ والمكمن الإبداعيّ. وبهذا المعنى، لا يغدو التّأسيس، على الدّوام، ضربًا من الولوج الأماميّ نحو منارة يجري البحث عنها، وإنّما يغدو في مقامات بعينها ضربًا من الإيغال في مجاهل النّصوص الغابرة، والوقوف على تجلّيات التّتويج النّظريّ المُراد الكشف عنه، وإن كانت في جلّها تجلّيات رؤيويّة استباقيّة رَسَفت عند حدود الفردانيّة من دون أن تطمح إلى ترسيخ تصوّريّ يروم أبعد من الفضاء الّذي انبثقت فيه.

من هذا المنطلق، يُمكن أن نُقارب بصورة أوّليّة إشكاليّة شعر الومضة، ومدى حاجتنا إليها اليوم، انطلاقًا من فِعلي العود والشَّيم. وقبل الشّروع في تقديم مقاربة معقولة، ينبغي الوقوف عند مصطلح الومضة، وتشريحه بإيجاز.

يعود الجذر اللّغويّ لمصطلح الومضة إلى الفعل الثّلاثيّ «وَمْض»، بحيث نقول: ومض البرق أي لمع لمعانًا خفيفًا، والومضة اسم مَرَّة من ومض، ونقول: ومضة النّبوغ، أي ظهوره على نحو مُباغت ومفاجئ. والومضة الشّعريّة هي تلك الطّاقة التّجميعيّة التّكديسيّة الّتي يُمكن أن تنطوي في ذاتها على بؤر الإمكان جميعها، كلّ ذلك في إطار رؤيا اختزاليّة تطويعيّة ترفد مجرى آفاق أقوال وشروح وترتدّ على نفسها في عمليّة تسوّرٍ يقيها شرّ الشّطط والانزلاق إلى فجاجة التّعليل وطغيان التّفسير وسلطان المُباشرة. إنّ القدرة على احتواء أكبر قدر ممكن من الطّاقة الفكريّة الاستشرافيّة وانسكابها في قالب صوريّ شعريّ مسألة ليست مستجدّة وإن لم تتّخذ منطوقها التّعبيريّ والمفهوميّ إلّا في سياق حركة الأدب الوجيز حيث اكتمل بنيانها التّصوّريّ اكتمالاً جزئيًّا وصار بالإمكان الحديث عن مشروعيّتها والتّنظير لضرورتها على نحو ما نحاول أن نختطّه في هذه السّطور.

وفي سياق فعل العود، تُطالعنا عبارة النّفري «كلّما اتّسعت الرّؤيا ضاقت العبارة»، وهي عبارة لا يُمكن إغفال مضمونها الدّلاليّ، بخاصّة أنّها وردت على لسان أحد أئمة المتصوّفة. وغنيّ عن البيان، أنّ اللّغة الصّوفيّة تختزل في ذاتها هذا الرّصّ الهائل لقدر كبير من التّجارب التّأمّليّة والإنصاتات الموغلة في فضّ حجب الوجود، واسكتناه مضامين الغيب. وعليه، فقد خلص النّفريّ إلى أنّ اتّساع الرؤية، وتاليًا، امتلاك القدرة على سبر أغوار الغيب واستبصار ما انغلق لا يُمكن أن يفسح في المجال أمام فيض الكلام، بل على العكس، يُفضي إلى نوع من التّسوّر داخل أقلّ قدر منطوقيّ يُفصِح بقدر ما يحجب وينطق بقدر ما يحجم. وبهذا المعنى، وفي عمليّة قفز تاريخيّة، نقع على تجارب خاصّة بأديب مرموق ذاع صيته وطارت شهرته، ونعني الأديب اللّبنانيّ ميخائيل نعيمه، حيث مهر كتابيه «كرم على درب» و «وومضات» بخلاصات فكريّة وجوديّة إنسانيّة على شكل شذرات انطوت على إمكانات هائلة، وتمخّضت عن مضامين موسوعيّة عميقة، وذلك من دون أن ترشف من بئر الاسترسال وتخوض غمار المطوّلات. ويُمكن أن نلحظ ها هنا عنوان كتاب نعيمه، وهو في أواخر الثّمانينيات من العمر، إذ آثر أن يُطلق عليه اسم «ومضات»، ولعمرنا إنّه فطن منذ عقود خلت إلى قيمة ما نصبو إليه .

أمّا فعل الشّيم، فهو باختصار رصد لملامح ما هو مقبل، ومحاولة تسويغ شعر الومضة في إطار الحاجة وذلك بمقدار ما هو تنويع أدبيّ على وتر المتخيّل والمُبتكر.

لا شكّ في أنّ للقصيدة العموديّة حيّزها الوجوديّ وروّادها المبدعين، وقل كذلك عن قصيدة التّفعيلة الواحدة، ومآثر قصيدة النّثر، إذ إنّ شعر الومضة لم يأتِ يومًا ليطرح نفسه بديلاً أخيرًا أو إقصاءً لتجارب إبداعيّة قيّمة ومرموقة. لكن، كما أنّ الحاجة هي أمّ الاختراع، فإنّ النّمط الشّعريّ هو ابن الحاجة. ونحن أحوج ما نكون في عالمنا العربيّ إلى هذا النّوع من الكتابة العصيّة والتّفكريّة والاختزاليّة. فمن جهة، لا يخفينّ على أحد ضعف الفتوح الفكريّة وخورها في جلّ ما يُكتب من قصائد تعيد اجترار الأنساق نفسها والتّجارب عينها في قوالب صوريّة إن لم تكن مستهلكة، فهي على الأقلّ منمذجة ومؤطّرة في سياق توقّعيّ، وانحباس إيقاعيّ وتعبيرات ارتكاسيّة لم تنجع القوالب الجديدة في جعلها تتخطّى كلاسيكيّة اللّغة الّتي ابتكرها السّيّاب وعكفت عليها نازك الملائكة وحملها إلى أقصاها كلّ من خليل حاوي وأدونيس ومحمود درويش. والمتأمّل في قصائد الماغوط، الّتي كان يُمكن لها أن تُشكّل إنجازًا رؤيويًّا في سياق العصر الّذي كُتبت فيه، وبخاصّة في المراحل الأخيرة حيث اكتنزت طاقات فكريّة وانضوت في سطور وجيزة، يجد من فوره أنّها ارتبطت بمسار اجتماعيّ وسيّاسيّ واقتصاديّ محدّد، فلم تتخلّص من أدران المباشرة وإن تيسّرت لها القوالب الصّوريّة الصّادمة حينًا، والمرامي التّأثيريّة الحاضنة في حين آخر. ومن جهة أخرى، نجدنا أحوج ما نكون، في ظلّ تسارع وتيرة العالم المنتظم، وارتسام معالم التّقنيّة كأفق وحيد لتثبيت موطئ قدم في مجمع الدّول المنتجة لكلّ ما هو حضاريّ وفكريّ، إلى مراجعة حساباتنا واستنطاق لاوعينا ومساءلة إمكاناتنا: هل نكتب شعرًا؟ وما حاجتنا إلى المطوّلات؟ وأيّ علاقة نبنيها مع القارئ؟

حقيقة الأمر، أنّنا نرصف مشاعر، ونلوك أفكارًا، ونجترّ تجارب من دون أن تتيسّر لنا فرصة النّقد الذّاتيّ ومراجعة الحسابات واحترام القارئ أوّلاً وآخرًا. لقد تقطّعت أنفاسنا، وابتلينا باللّهاث ونحن نعدو وراء الفكرة عينها صفحة تلو صفحة، في ضرب من اللّوك والمضغ غير الصّحيين بحثًا عن ومضة غالبًا ما ترد إن وردت – في قفلة القصيدة لتكون تتويجًا لمسار طويل من الجهد المضنيّ من دون أيّ طائل. إنّ عدم الاصطبار على مجرى تكوّن الفكرة وتمخّص الصّورة واستفحال المعنى مشكلة مزمنة آن الأوان للعزوف عنها بمزيد من التّأمّل والاصطبار والتّحكّم والتّقصّي. أضف إلى ذلك، أنّ القارئ الّذي نرومه اليوم، هو القارئ المزوّد بثقافة علميّة كونيّة ومعارف شموليّة وثقافة موسوعيّة، ما يعني أنّ احترام عقله أضحى حاجة ملحّة. ونحن في علاقتنا بهذا النّوع من القرّاء يجب أن نكون على قدر المسؤوليّة، بمعنى، أن نسكب له في قالب لفظيّ وصوريّ موجز ومضة تحمل من المضامين الثّوريّة والوجوديّة والإنسانيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة والحضاريّة ما يقضّ مضجعه، ويبعثه على التّفكرّ معنا في مآل ما يمكن أن يؤول إليه، وفضّ ما ارتسم أمام ناظره ولم يره، واستجلاب ما انغلق عليه رغم تزوّده بآليّات علميّة هائلة ومخيفة.

إنّ شعر الومضة بما هو تكثيف هو تجاوز للسّائد وحرف لمسار الحياة الرّوتينيّة اليوميّة ونقد للمأسسة وتصويب ضدّ سياسة التّدجين. فكي لا يحمل العالم في ذاته لونًا واحدًا يسير على وتيرة واحدة، يجب أن نعكف على هزّ القناعات وخلخلة المفاهيم السّائدة ونقض المعايير البائدة، وتقديم بدائل تفكّريّة شعريّة إيقاعيّة صوريّة، تُعيد طرح المسائل كافّة من زاوية الومض المؤسِّس. فنحن قادرون بأقلّ قدر من الكلمات على تهيئة مناخات ملائمة للتّفكير مقرونة بالجمال والتّعبير الرّفيع. ولا يخفينّ على أحد أنّ الفيلسوف الألمانيّ نيتشه قد قوّض فلسفة برمّتها انطلاقًا من شذرات قصيرة، وقد آن الأوان لتقويض مفاهيم بائدة وتصوّرات راسخة من خلال ردّ الكون بتجلّياته كافّة إلى لحظة انفجاره الأولى، ونعني اللّحظة الشّعريّة بالتّحديد.

عضو في ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى