دور ينتظر الجزائر: مشاهدات وانطباعات
معن بشور
في الجزائر إجماعان سياسيان وشعبيان في آن… إجماع على إصلاح شامل في كلّ جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، فكلّ من التقيته من سياسيين ومثقفين ومواطنين كان مسكوناً بإصلاح وطن حرّرته ثورة كانت «مفاجأة العروبة لنفسها».
وإجماع على تحصين الجزائر في وجه أيّ محاولة لاستعادة أجواء ما يُسمّى في الجزائر «بالعشرية الدموية السوداء» حيث دفع الجزائريون في تسعينات القرن الفائت ما لا يقلّ عن مئة ألف شهيد في حرب شنها متطرفون ومارسوا فيها كل البشاعات الإجرامية التي نراها تتصدر المشهد السياسي والأمني والاجتماعي اليوم في أكثر من قطر من أقطار الأمة بهدف تفتيت المجتمعات وتدمير الدول وتحطيم الجيوش وإبادة الجموع والجماعات والمجموعات التي تخالف القتلة أفكارهم وآراءهم وقناعاتهم.
ومما يعزز من هذا الإجماع هو مشاهد النازحين من سورية وجمهورية مالي الأفريقية بفعل حروب مشابهة كالتي عاشتها الجزائر، فالسوريون موجودون في مخيمات يعانون ما يعانونه، أما الماليون فيفترشون شوارع العاصمة والمدن وبعضهم يتسول لقمة عيشه.
في ظل هذين الاجماعين، اللذين لمستهما في كل لقاء أو ندوة أو ملتقى فكري أو تجمّع شهدته الجزائر، وهي تحتفل بالذكرى الستين لثورة التحرير والاستقلال التي انطلقت في الفاتح من نوفمبر عام 1952، يدور حراك سياسي بين تيارات واتجاهات فكرية وسياسية واجتماعية لا يخلو من حدّة، في بعض الأحوال، لكن مع إصرار واضح على حماية الدولة من عبث الفتنة، وحماية المجتمع من خطر الاحتراب، وحماية المواطن من شرور التغوّل والفساد والاستبداد والاستئصال والتي باتت لسوء الحظ شروراً متنقلة من بلد إلى آخر، ومن مشهد إلى مشهد آخر.
في ظل هذين الاجماعين، يتلاقى الجزائريون على أنّ ما شهدوه من صراع دموي في بلادهم لم يكن البتة صراعاً طائفياً حيث أن الغالبية الساحقة من الجزائريين مسلمة، ولم يكن مذهبياً حيث غالبية الغالبية تنتمي إلى المذهب المالكي، كما أن ما سعى ويسعى أعداء الجزائر إلى تغذيته كصراع عنصري بين عرب وأمازيغ يسقط أمام وعي وطني وثقافة عربية إسلامية، بل إن أبرز «العروبيين في الجزائر من أصول وقبائل أمازيغية» كما إن «الشاوية» وهي أكبر تلك القبائل كانت على الدوام حصناً للوطنية الجزائرية وللعروبة والعربية معاً.
ويؤكد بعض هؤلاء العروبيين كالمؤرخ البارز الدكتور عثمان سعدي المنتمي إلى أكبر القبائل الأمازيغية في العالم- أن الأمازيغ هم «نتاج هجرات عربية من الجزيرة العربية، وأن أصول لغتهم كنعانية، وأن استقبالهم السريع للدعوة الإسلامية ما هو إلا تأكيد على هذه الحقيقة، وأن أبطالهم في التاريخ الغابر ما قبل الميلاد هم أبطال مقاومة للهيمنة الرومانية على ما كان يسمى ببلاد «النوميديا» «وموريطانيا».
وفي ظل هذين الاجماعين، تبقى قضية فلسطين عموماً، وقضية القدس والأقصى المبارك خصوصاً، هي الجامع الأسطع للجزائريين على اختلاف مشاربهم، معتزين بدور أجدادهم في تحرير القدس تحت لواء صلاح الدين، وبدور قادتهم المعاصرين من المجاهد عبد القادر الجزائري، إلى الشيخين الجليلين عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي، إلى أول رئيس لبلادهم بعد الاستقلال الزعيم الراحل أحمد بن بله، ثم إلى الرئيس العقيد هواري بومدين الذي تجاوز بعد الخامس من حزيران 1967 خلافاً معروفاً مع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وذهب إلى موسكو معلناً استعداد بلاده لكي تسدد ثمن كل سلاح تحتاجه القاهرة لإزالة آثار الهزيمة والعدوان.
ويقول المؤرخ العروبي البارز د. مصطفى نويصر إنه اكتشف نصاً قديماً لبومدين يقول، إن «فلسطين هي كالاسمنت المسلح للأمة إذا تمسكنا بها، وإذا تخلينا عنها تصبح قنبلة تنفجر فينا جميعاً».
فلسطين حاضرة دوماً في وجدان الجزائريين ومبادراتهم، وآخرها دور الوطنيين الجزائريين البارز في إنجاح تجربة «أسطول الحرية لكسر الحصار على غزة»، والعديد من قوافل كسر الحصار المتواصلة حتى الساعة، وهي المعيار الذي يستخدمه الجزائريون في الحكم على العديد من الأحداث والفتن والمحن التي يمر بها وطننا العربي، وعالمنا الإسلامي، لذلك يدرك الجزائريون مثلاً خطورة ما يجري في سورية وليبيا ومصر والعراق، ليس فقط بسبب تجربتهم المريرة مع الاحتراب الأهلي وعنف المتطرفين فحسب، بل أيضاً لأنهم يرون كذلك أن الصهاينة وحلفاءهم «الأقربين» والأبعدين إنما كانوا يستهدفون فلسطين حين احتلوا العراق وسعوا إلى تقسيمه، وحين استدعوا الناتو لتدمير ليبيا وتحويلها إلى منصة لتصدير العنف والاحتراب إلى عموم المنطقة، وحين أوجدوا في مصر أوضاعاً شاذة ودموية لشل قدرات جيشها وإرهاق مشروعها الوطني والقومي، وحين غذوا وما يزالون حرباً في سورية وعليها كان للجزائر منها، منذ بداية الأحداث فيها قبل ما يقارب السنوات الأربع، الموقف المتميّز الرافض لعزل دمشق بكل ما تمثله للأمة، بل والمجاهرة باستمرار العلاقات مع سورية على رغم كل ما واجهته من ضغوط وتهديدات وإغراءات بات يعرفها الجميع، وما زال البعض متخوفاً حتى الآن من أن تدفع الجزائر ثمناً لمواقفها، على رغم ثقة كل العالمين بأوضاع الجزائر أن وعي أبناء ثورة المليون ونصف المليون شهيد أقوى من كل هذه المخاوف.
لذلك لم يكن غريباً أن يلمس زائر الجزائر إصرار العديد من شخصياتها وقواها السياسية على ضرورة أن يستعيد بلدهم الدور المأمول منه عربياً وعالمياً وإسلامياً، لأنه في استعادة هذا الدور ما هو أكثر من واجب قومي وإسلامي وتحرري، فيه أيضاً تحصين للجزائر نفسها في مواجهة العواصف والزلازل المحيطة بها.
ويلخص الكثير من الجزائريين هذا الدور بأمرين أولهما دعم كل جهد مقاوم للمشروع الصهيوني، وثانيهما إطلاق مبادرات لمحاصرة الفتن والأزمات التي تعصف بالعديد من أقطار الأمة، حيث يعتقد كثيرون أن تفاهماً جزائرياً مصرياً يستطيع أن يشكل نواة عربية وإسلامية تلعب دوراً في إيجاد حلول للعنف الدائر في ليبيا، وللأزمة المتفجرة والآيلة إلى المزيد من التعقيد في سورية.
وما زلت أذكر قولاً لمجاهد جزائري كبير، كان قائداً للولاية الرابعة في جبهة التحرير الجزائرية وقد أمضى بسبب مبدئيته وصراحته سنوات عدة في السجون، هو الرائد السي لخضر بورقعة في لقاء مع وفد من معارضة الخارج السورية جاء إلى الجزائر يدعو لتدخل عسكري أجنبي في سورية باسم «الثورة». يومها قال بورقعة: «كل الثورات التي أعرفها، بما فيها الثورة الجزائرية، قامت لإخراج الأجنبي من بلادها، وهذه هي المرة الأولى التي اسمع بها عن ثورة تطالب بإدخال الأجنبي إلى بلادها». وقال: «لقد احتربنا لسنوات عشر في الجزائر، لكن أحداً من الجزائريين لم يحاول الاستقواء بأجنبي على جزائري آخر».
وفي مقابلة تلفزيونية قبل أيام مع هذا المجاهد حول ذكرياته في الثورة الجزائرية قال بورقعة: «كيف نحتفل بأعياد ثورتنا، وغرناطة الشرق يعني سورية تحترق… لقد بكينا غرناطة الأندلسية كثيراً، فلا تدعونا نبكي غرناطة الشرق أكثر».
مشاهد قد تبدو متناثرة، لكنها في عمقها ذات مغزى واحد، ومعنى واحد، وهي أن ما يصيب أي جزء من أمتنا يصيبها كلها. إنه الانتماء القومي العربي الذي لمسته كذلك في لقاءاتي العديدة مع شباب الجزائر، وقد جاء بعضهم من مدن وقرى تبعد مئات الكيلومترات عن العاصمة ليشاركوا في لقاء نظمه مشاركات ومشاركين جزائريون في مخيمات الشباب القومي العربي، ومنتديات التواصل الشبابي العربي.
بل مشاهد تؤكد عمق الالتزام بالوحدة الوطنية داخل كل قطر، وهي «الوحدة» التي اعتبرها مناضلو «حركة البناء الوطني الجزائرية» أساساً لوحدة الأمة، كما جاء في عنوان ملتقاهم الفكري الثاني الذي عقدوه على نهج الشيخين المؤسسين محفوظ نحناح، الشيخ الأجرأ في مواجهة موجات العنف التي عصفت بالجزائر في العقد الأخير من القرن الماضي، ورفيقه الشيخ محمد بوسليماني الذي اغتالته أيدي الغدر والتطرف لأنه كان يدعو إلى الحوار ونبذ العنف الأهلي أيّاً كانت مبرراته.
في الجزائر حذر محسوب ومفهوم على مستوى القيادة، لكن، بين الجزائريين إصرار متنامٍ على ضرورة أن تستعيد الجزائر دورها المأمول منها عربياً وإسلامياً وأفريقياً وعالمياً، والكل يذكر كيف أوقفت الجزائر عام 2005 في القمة العربية مشروعاً أميركياً محمولاً من عدة حكومات عربية لاتخاذ قرار عربي للتطبيع مع الكيان الصهيوني، خصوصاً بعد احتلال العراق، وكيف أعلن مسؤولوها آنذاك: «ليست الجزائر البلد الذي يستقبل قمة تكرّس التطبيع العربي مع العدو».
المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية