بانوراما تونسية: كأنها عودة إلى شاهد العقل السياسي!
د. محمد نعيم فرحات
حملت الانتخابات النيابية التي جرت، مؤخراً، في تونس دلالاتها المحلية المكثفة، كما كانت لها دلالات أُخرى عابرة للحدود الوطنية، خصوصاً في سياق ما تشهده المنطقة والإقليم من صراعات مركبة بين مقاربتين تشتبكان على نحو غيرٍ مسبوقٍ في تاريخها الحديث على الأقل. وإذا كان الأمر الواضح في نتيجة الانتخابات هو «دحر» حركة النهضة ذات الأيديولوجيا الإسلامية عن حقل الهيمنة وعن مكانة القوة الرئيسية في البلاد، منذ انتخابات المجلس التأسيسي قبل ثلاث سنوات، وإعادتها إلى قواعدها وإلى حجمها الفعلي بجروح بليغة أصابت صورتها ومعناها وحضورها ورهاناتها معاً، فقد كانت نتيجة الانتخابات «وبالاً سياسياً ومعنوياً» ساحقاً لحلفائها في «الترويكا»، حزبا المؤتمر والتكتل من أجل الجمهورية، إذ تلقى الحزبان المذكوران «إهانة سياسية» كبيرة جعلتهما «نيابياً» أثراً بعد عين. غير أن القراءة العميقة لهذه النتائج عليها أن تتجه نحو العوامل والعناصر والسياقات التي أفضت إليها، وتأثيراتها الداخلية والخارجية، وفي هذا التمشي يمكن التأمّل في عدة مسائل تثيرها الانتخابات وما سيتمخض عنها من حراك:
مزاج عقلاني
أولا: لقد قالت الانتخابات، باعتبارها محطة كاشفة للتوجهات والنوايا والتفاعلات والبيئة النفسية والسياسية ورهانات الناس وعمل الفاعلين، إنّ تياراً رئيسياً في المجتمع التونسي قد عاد مكلوماً من «زهو» الثورة ومغامراتها وفشلها في صياغة البديل المطلوب، إلى حيّز الإصلاح ومنطقه ومتطلباته وثقافته، في مجتمع يعرف معنى الدولة العميقة، وله موروث في الإصلاح وحركاته ودعواته، وليس في الثورات والانقلابات. والمجتمعات لا تعيش بالزهو غير القادر على التحوّل إلى مكتسبات ونتائج وحلول تلاقي مشكلات الناس وتوقعاتهم، لقد جرى ذلك في مجتمع له مزاج عقلاني إلى حدّ التصلّب في بعض أبعاده، وفي تجربته الأخيرة عرف معنى الضياع وأثمانه جراء غياب الدولة ومعناها ودورها وثقافتها.
تصفية حساب
ثانيا: بحسب فكرة عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورن ومقولاته في علم اجتماع الفعل، عن قيام المجتمعات بالتدخل على نفسها لاستعادة توازنها، من الواضح أنّ تياراً رئيسياً في المجتمع التونسي قد قام بعملية تصفية للحساب مع منظومة الحكم التي هيمنت بعد إطاحة زين العابدين بن على، التي فشلت في صياغة أي بديل أفضل من النظام السابق في أغلب المجالات، كما قام هذا التيار بتصفية الحساب مع تخاذل المجتمع نفسه عندما لم يتابع المعنيون فيه الخطوة التالية لإطاحة النظام السابق عبر تثمير سياسي مناسب وإيجابي، وتشكيل فاعلين سياسيين جدد يعبّرون عن توجهات المجتمع في لحظة التحوّل والتغيّر، وفوّت فرصة صنعها بنفسه فاغتنمتها قوى صعدت إلى حقل الهيمنة السياسية على أكتاف لحظة أنجزها الاحتجاج الشعبي وفعله في الميدان.
جملة من الأخطاء
ثالثا: رغم وجود «تمايز ما» في مسار حركة النهضة وفي خطابها كفرع لحركة «الإخوان المسلمين» في تونس، ورغم أن العقل السياسي كان يرسل لها «بكرمٍ» كلّ إشارات التحذير المحلية والإقليمية، فإنها سرعان ما انزلقت نحو منطق الدعوة العليا لحركة «الإخوان المسلمين» ورؤيتها، على حساب «التمايزات المثمرة والثمينة» التي كانت تنطوي عليها تجربتها، وقد عبّرت عن هذا الانزلاق في السياسات الداخلية والخارجية التي انتهجتها، وارتكبت في هذا الصدد جملة من الأخطاء التي لا تًغتفر في السياسة. إنّ تقديرات عميقة متابعة لسلوك حركة النهضة تقول إنها قد جنحت نحو تبنّي نموذج مُنفّر أثار ما يكفي من المخاوف والذعر بدلاً من ذهابها إلى بناء نموذج جاذب في الخطاب وفي السياسة والحكم، يفيدها ويفيد «الإخوان المسلمين»، وانتهجت ثقافة انتقامية مغلفة بتورية سرعان ما كانت تذوب وتؤدّي وظيفة سلبية للغاية بدل قيم السمو والتجميع والانفتاح والبحث عن فرص التلاقي مع الآخرين أو خلقها إن اقتضى الحال، وأنها قد عملت على زعزعة المجتمع التونسي وتنمية الشك والريبة عنده أكثر من قيامها بتطمينه وتغيير الصورة النمطية السلبية عموماً عن «الإخوان المسلمين» المعززة بالتجارب هنا وهناك وقد تجلت هذه التوجهات في أغلب ممارساتها السياسية التي كان الناس يرونها عن كثب، غير أنها ظهرت على نحو معقد في اللعبة الخطرة التي مارستها حركة النهضة، التي تمثلت في تخويف المجتمع من ظلامية سلفية ابن عياض، حيث يتهم كثير من التونسيين حركة النهضة بأنها قد وفرت لها البيئة المناسبة للتعبير عن نفسها وأطروحاتها المخيفة، وأفصحت عن عنفها الرمزي والفعلي من تونس حتى سورية والعراق، ويقولون إنّ «النهضة» قد وضعت التونسيين عملياً أمام خيارين: إما سلفية ابن عياض أو أن يكون البديل هو سلفية سيد قطب التي لا تقلّ عنفاً من وجهة نظر كثيرين أيضاً، وكما جرى في أغلب مجتمعات الإقليم استفاد السلفيون من ذلك، ولو قليلاً، فيما خسر «الإخوان» كثيراً، وتقهقروا نحو حيّز الخسارة الاستراتيجية: أيديولوجياً ومعنوياً وسياسياً. وقد تكاتفت نتائج هذه اللعبة الخطرة مع غيرها من الخيارات، على نحو أفضى بحركة النهضة لأن تساهم في إحداث زعزعة عميقة لمزاج التونسيين الذي يتموضع فيه الإسلام كثقافة مؤسسة وعميقة الحضور، إذ عاش التونسيون قروناً مع «إسلاموية ثقافية» صوفية الطابع، لا تعاني من التوترات بمقدار ما تساهم في حلها وإيجاد التسويات الممكنة مع الواقع ومتغيّراته، وكان خطأ النهضة الجوهري هو اشتباهها مع سلفية انتقامية عنيفة، تعادي التنوّع والتعدّد والحسّ المدني، والروحية السلسة والناعمة للإسلام في صورته البهية والعظيمة.
معارك ضدّ التطرف والتكفير
رابعاً: يبدو من الواضح أنّ عملية انتظام متعدّدة المستويات أخذت تشهدها مجتمعات الحواضر والبيئات المدنية العربية، التي عرفت التنوّع والتعدّد والانفتاح، وبنت نماذجها الحضارية الملائمة، وعاشت بها، وصارت هذه المجتمعات أمام تحدّي خوض معاركها ضدّ التطرف والتكفير باعتبارهما تهديداً عميقاً وشاملاً لنموذج حياتها، كلّ بطريقتها، من: الجزائر التي حسمت أمرها قبل الجميع إلى سورية فالعراق فمصر فاليمن فتونس. ومن هذه الزاوية، ثمة أمر يتطلب التوقف عنده في قراءة الانتخابات التونسية، هو بالضبط خيار الحواضر وأصحاب الحسّ المدني، والوعي الذي تشكل فيها على مدار السنوات العاصفة التي مضت في ظلّ حكم «الترويكا» وموقفها من الأطراف السياسية التي تتنازع في الحقل العام. كما يتعيّن التوقف عند المشاركة الواسعة لقطاع المرأة وحجم تأثيرها «كفاعل انتخابي أساسي» عند النهضة كما عند التيار المدني الصاعد في تونس، وموقفها في الصراع القائم بين مقاربات شقت في ما شقت قطاع المرأة، بين تيار يريد أن يذهب بها وبالوضع ككل نحو نمط سلفي من منظور معيّن، وتيار يريد حقلاً عاماً لا يضطهدها أو ينال من مكانتها أو معناها وفقاً لقراءة أتباعه.
لعبة فاعلين سياسيين
خامساً: تظهر التجربة التونسية من جديد بديهة سياسية، تعرفها المجتمعات المهيكلة ذات الحسّ المدني هي أهمية البنى السياسية المتشكلة والمتجذرة وقدرتها على الاستمرار والحضور والمعاودة، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل أو قطاع المرأة وإنْ كان قطاعاً غير مهيكل بالمعنى الدقيق للكلمة أو تيار الدولة أو حركة النهضة أو الحركة السلفية. لقد برهنت الانتخابات التونسية على أنّ اللعبة السياسية في المجتمعات المتشكلة هي لعبة فاعلين سياسيين لهم جذر وهيكل وامتداد وقدرة وحضور وطاقة حشد وقدرة ترجيح واستقطاب.
ورغم الوجود التاريخي للعروبيين واليساريين في المسرح السياسي التونسي، فإنهم لم ينالوا أبداً ما يستحقونه أو يعتقدونه أو يتوقعونه لأنفسهم لأسباب داخلية وموضوعية، غير أنّ صوتهم قد ظلّ ملحوظاً في وادي السياسة.
ضائقة وجودية واستراتيجية
سادساً: برؤية الحدث التونسي في سياق ما يجري في مستوى المنطقة والإقليم، فإنّ الحركات السياسية الإسلامية في العالم السني تحديداً وليس حركات الإسلام السياسي، كما يجري وصفها كخطأ منهجي جذري يُراد منه، في ما يراد، وضع علل هذه الحركات في الإسلام نفسه، وتحميله وزر ذلك ، وأولها بالخصوص حركة «الإخوان المسلمين»، تعيش في ضائقة وجودية واستراتيجية، بسبب أخطاء في الرؤية وخلل في المنطلقات، واشتباه في التأويل، وفشل في الممارسات، وعجز عن بناء نموذج سياسي ثقافي جاذب ومناسب، وعطب ملحوظ في القدرة على الاغتنام.
وباستخدام مفردات الطب، فإنّ هذه الحركات التي سبق وتعرّض سعيها المبكر لعملية إجهاض مبكرة في الجزائر، تعيش حالياً عملية تهشيم عميقة للوجه والمعنى كما يجري في سورية، وكسر لعمودها الفقري كما يجرى في مصر، وتحطيم للحوض كما يجري في اليمن، وغلّ لليد كما يجرى في تونس، على يد أبنية توحي أو تقول أو تدّعي أنها ترتبط بمنطق الدولة وبفاعلين سياسيين لهم تأويل مختلف للدين وللعروبة وللحظة ولمعنى المدنية ومتطلباتها، وبالنسبة لحركة «الإخوان المسلمين» حصراً، فإنّ تفسير ما يجرى يتطلب منها رفع «جهاد النقد» إلى مرتبة الواجب السياسي والديني، المقدم على كلّ واجب.
العِِبَر والتحديات
لقد أصبحت الانتخابات، على نحو أو آخر، وراء ظهر التونسيين وقواهم السياسية كحدث، غير أنّ عِبَرها والتحديات التي خلقتها تقيم أمامهم.
ووفقاً لمنطوق المثل الشعبي التونسي، فقد عاد كلّ الفرقاء، كلّ بقدره الذي استحقه وفقاً لظروف اللعبة السياسية، وفي هذه اللحظة بالذات لا يحتاج الرابحون إلى استحضار «فتح مكة أو القسطنطينية» كما لا يحتاج المندحرون إلى استحضار «صلح الحديبية»، لأنّ الذي سيمكث في أرض السياسة، هو العمل البناء القائم على المراجعة والتعديل والتبديل، والتكيّف الساعي إلى تحقيق أهداف وطنية لا اختلاف بشأنها. وامتلاك كافة الفرقاء المعنيين للخيال السياسي اللازم لاستثمار المتغيّرات في سياق مجدٍ يقوم على أساس، ثقافة المواطنة واحترام التعددية كقيمة مركزية، ومنع التغوّل والإقصاء
والاستئثار، والذهاب نحو مشروع الدولة القادرة والمقتدرة والعادلة، كيدٍ عليا فوق كلّ يد، والتداول السلمي للسلطة، وبناء نظام سياسي صحي ومعافى قدر الإمكان يقوم فيه الجميع بواجباتهم.
والتحدي الذي يواجهه التونسيون وباقي شعوب المنطقة اليوم هو كما كان في الأمس، لا يكمن في وجود فرصة أو إمكانية ما، بل في كيفية تثميرها على نحوٍ لا اشتباه فيه ولا أخطاء، وكفّ يد الغرائز السياسية البدائية عن العمل، حيث لا يستفيد من اشتغالها أحد!
كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين
مهتم بالشأن التونسي