في حضرة الحياة

ما أحوجَنا إلى تجاربَ عديدةٍ تُعيدُ إلينا بَصرَنا وبصيرتَنا المرئيّة والسّمعية..

فالآباءُ والأجدادُ وعلى كَثرةِ تجاربِهم لم يتركوا شيئاً إلاّ وصاغُوه حِكَماً وأمثالاً واقعية..

سمعتُ مؤخّراً عن قصةِ شاب اجتمعَ بكبيرِ قومٍ من «العارفين»..

طلب هذا الشاب من أستاذِه «الكبير» المعرفة وثقافة حبّ الوجود وحب الله..

فأرادَ أستاذُه أن يُجيبَ عن سؤالِه عبرَ درسٍ أبديّ حولَ حقيقةِ الحياةِ والوجود، وعن ذلك الفرقِ الأبدي في طبائعِ الحيوات، فهناك حياةٌ من الماء وهناك حياةٌ من السراب !

ثم قال الأستاذُ للشاب:

اذهبْ إلى المدافنِ واشتم الموت يا بني.

اعترضَ الشّابُ قائلاً: أعوذُ باللهِ! ما هذا الطلبُ الصّعبُ يا سيّدي؟

فألحّ عليه أستاذُه وأقنعَه بأنّ ما عليه سوى طاعةِ الأمر،

وأنّ الطّاعةَ هي بمثابةِ المعرفة، وأنه سيرى النّتيجة عبرَها !

فذهبَ الشابُ إلى المدافنِ مُطيعاً أستاذِه مغلوباً على أمرِه، وشتمَ الموتى كما أمرَه !

ولمّا رجعَ سألَه الأستاذ:

هل ردّ عليك أحد؟

أجابه: لا. أبداً.

فقال له الأستاذ:

انتهى الدّرس الأوّل..

وفي اليوم الثاني: طلبَ منه أن يذهبَ إلى الأمواتِ نفسِهم ويُناجيهم

قائلاً: أنتم جنةُ الأرض. أنتمُ الأطهار. أنتمُ الشّهداء.. فعلَ الشابُ ما أمره..

ولما رجعَ سألَه أستاذُه للمرّة الثّانية:

هل من أحد ردّ عليك؟!

أجابه الشّاب: لا أبداً

فقال له الأستاذ: الآن ستكون حكيماً يا بني..

لأن النّاسَ في الأرضِ أجسادٌ ستبتلعُهم الأرضُ

وتأكلُهم، ولا من أحدٍ سيسمعُ صُراخَك إلا اللهُ في الأعالي !

نعم هنا تكمُنُ حكمةُ الحياةِ في الموت، لا حسابَ إلا عندَ الله !

وهنا نبني قولاً على ما تقدّم:

فعندما تموتُ فينا طبائعُ الحسدِ والحقدِ والكره والتملّقِ والضّغينةِ وحبِ التملّكِ والأنانيّةِ والرّياءِ والكذبِ ثم الفسادِ بكلّ أنواعِهِ نكونُ عندَها في عدادِ دنيا الحياة، وعندما تعيشُ فينا سجايا الحبِ والمودّةِ والكرامةِ والصّدقِ والطّيبةِ والعفويّةِ والإنسانيّةِ وحالةِ الخيرِ والتواضعِ والتّعاونِ نكونُ عندَها – ولو موتى – أحياءً في عالمِ أنوارِ السماء.

إنه القلبُ ينبضُ بالفكرِ والعقل، ولكن عندما تتفلّتُ النّفسُ من رقابةِ العقلِ نقعُ في المحظورات وسقطةِ النزوات..

فلنكنْ جميعُنا بالعقولِ الواعيةِ والقلوبِ الكبيرةِ مستمرّين في حضرةِ الحياةِ «الماء»، نعيشُ المحبةَ والسـّلامَ مع أحياءِ السّماء..

لنكنْ شعبَ ذلك الحُلُمِ الجميل الآتي من المستقبلِ العظيم.

د. سحر أحمد علي الحارة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى