الخاشقجي.. ومسرح اللامعقول في تركيا والسعودية.. وفلسطين «العارية»!
نظام مارديني
أسبوعان مرّا على غياب المغدور جمال الخاشقجي وبدء مسح مسرح الجريمة التي ذهب ضحيتها. وهو الرجل الذي لا يمكن ذكره إلا بما يمكن وصفه بعجائب تنظيراته «الثورية» للإرهاب الوهابي والأخونجي. وهي تنظيرات كانت قد اتضحت قبل مقتله بسنوات، ولكن ما هو التشابه المذهل بين بطل مسرح قنصلية اسطنبول، إبن سلمان، ومسرح أردوغان وما القواسم المشتركة بين الاثنين ضمن «اللامعقول» الذي لا يصدقه أحد، وهي القواسم التي تحققت بها وسائل اعلام عديدة لتتأكد منها واحدة بواحدة، فوجدت معظمها «حقيقياً»، واستبعدت منها مبالغات كثيرة قد تسيء لبنك مواردهم السعودي في لحظة يعيش فيها العالم الاقتصادي مسرحه اللامعقول.
العالم الأعشى الذي يتواطأ مع مجازر إبن سلمان في اليمن كما تواطأ ويتواطأ مع مجازر أردوغان بحق أهلنا في عفرين، هو هو العالم الذي لا يزال يتواطأ مع المجازر الصهيونية بحق شعبنا في فلسطين المحتلة منذ أكثر من سبعين عاماً.. فعن أي جريمة يتحدّث في مقتل الخاشقجي!؟
يُعدّ ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إبن الوهابية، في حين يعد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، حفيد الخلفاء الراشدين هكذا يظنّ نفسه.. اسألوا مشعل حماس ، والمذكوران الإثنان حاولا أن ينزاحا عن التراجيديا القائمة منذ غزو الجراد اليهودي لفلسطيننا ولأرضنا، والتمرد عن المسرح الإسلامي ـ المحمدي، عبر النبش في الذاكرة الشرقية من أجل «إذلال» الإنسان العربي ـ المحمدي، المريض أساساً، والمستلب عقلانياً من قبل «الإسلاموية» المتوحّشة، بهدف تكريس غرائز هذا الإنسان الشريرة، وانفعالاته «التناتوسية» كما وتكريس مكبوتاته بواسطة مسرح القسوة والتعرية الصارخة القاسية لاشعورياً، على أرض الواقع، وفي محاولة دنيئة لسلب هذا الإنسان هويته من خلال إلغاء حقه في استعمال عقله بكل حرية ومن منظوره الخاص.
إنها إشكالية تسليع الشخص ليتحوّل إلى مجرد فرد ضمن قطيع ينتظم وفق تطابق وتشابه ووحدة نمطية تسلب الشخص كل مقوّمات تحققه الوجودي الذي يتميز به عن سائر الكائنات. وهي إشكالية تشييء الإنسان المحمدي ذاتها وهو قائم بالفعل الآن وتحويله إلى قيمة استعمالية في سوق العبودية من خلال عُملة التبعية والطاعة والخنوع.
هي عقدة أوديب إذاً التي تلازم الثنائي، إبن سلمان وأردوغان، رغم أن فرويد ركز على مجموعة من العقد التي يعرفها الإنسان: كعقدة إلكترا، والعقدة النرجسية، وعقدة النقص، وعقدة التعويض.. كما التصرفات اللاواعية واللاإرادية، والسلوكيات اللاشعورية التي تتمثل في الإنسان، فهل كان فرويد يتوقع ظهور هذه النماذج من الشخصيات في مسرح اللامعقول الإنساني؟
بين مسرح اللامعقول على الأرض الفلسطينية، حيث البطولة التي يسطرها الفتية بصدورهم العارية، وهم يتلقون الرصاص من الاحتلال الصهيوني من جهة، والصمت «الإنساني» الدولي من جهة.. بين هذا المسرح ما يذكرنا برواية «عسل المرايا» للصديق، نافذ أبو حسنة، إذ ثمّة تفاصيل تشي بأنها تتحدّث عن الواقع، فهو صوّر الأرواح المعلّقة على جدران تقاعسنا أمام ما يبتكره أهلنا في فلسطين المحتلة، وكلما حاولنا الفرار من جحيم النار، كنا نصطدم بجدران هذا التقاعس. ولكن ومن موقعنا كمتقاعسين، جلسنا متفرّجين أمام هذه الأجساد الطاهرة وكأنّها الشمس تعمي نظرنا وعيوننا وتكشف ضعفنا وعيوبنا. هي أجساد تواجه بلحمها آلة العدو الجهنميّة، فنصرخ من جديد، ونستمرّ في الصراخ.
هل هي لعبة ضوء وصوت… أم أن الحقيقة أبت إلا أن تكشف عريَنا الماثل أمام طهارة الدم؟
لا لسنا من الذين يمشون وراء جنازة «غودو» ولا ننتظر أحداً، بعدما تحوّلت تلك الصدور العارية إلا من الإيمان أيقونة يضعها كلّ حر على جبينه الذي تُقبّله الشمس، فمَن يستردّ بهاءكِ غيرُهم يا فلسطين، وسط الصمت العربي والإسلامي والدولي؟
يقول الشاعر أديب اسحاق 1856 1885 :
«قتل امرئٍ في غابةٍ
جريمةٌ لا تُغتَفر
وقتل شعبٍ آمنٍ
مسأَلةٌ فيها نظر
والحقُّ للقوَّةِ لا
يعطاهُ الاَّ مَن ظفر
ذي حالة الدنيا فكن
من شرّها عَلَى حذر»
لا لم يخرج إرهاب إبن سلمان وأردوغان وداعش والنصرة والاخوان، من كهوف العصور الغابرة، بل جاؤونا من الأمكنة المفتوحة المضاءة للعولمة، الأمكنة التي على الرغم من سعتها لا تحتضنهم، أو لا يستطيعون امتلاكها.. هنا تستحوذ عليهم نزعة أن ينالوا كل شيء لأجل قتله وتدميره.. إنها شيزوفرينيا الإرهاب، وشيزوفرينيا العولمة. وبذا فإن هوية الإرهابي هي في وجه منها ضيّقة مغلقة، وفي الوجه الآخر سائبة، مفتوحة، هلامية.
الإرهاب الإسلاموي المحمدي بقدر ما هو نتاج عَرَضي لعصر العولمة هو صورته الشوهاء.. الإيديولوجيا الجهادية السلفية ليست سلفية بالكامل، إنها نتاج تكييف مع عناصر في عالمنا المعولم.. نزعة التدمير تنشأ من هنا.. يظنّ الإرهابي أنه يستعير كثيراً من أصل المعتقد القديم، لكنه في الحقيقة يصوغ معتقداً مغايراً متساوقاً مع مكانه المتخيّل.. هذا الإرهاب هو نوع من العودة إلى مشاعية مبتذلة، خطرة، مشاعية فقدان المعنى والحدود والقيم، مشاعية الكراهية والانتقام.. ليس الانتقام من الآخر المختلف فقط وإنما الانتقام من العالم قبل ذلك.
ولكن الإرهاب الإسلاموي تحوّل إرهاب دول وجماعات، وباتت منهجية هذا الإرهاب منطلقاً للحديث عن فكرة الدولة الغائبة، وعن ظاهرية النص، وهو ما يستدعي شرعنة لتبرير «الإرهاب المقدس» أي إرهاب العدو والمختلِف، وإخضاعه، والتعاطي معه وفق أصول الفتاوى في ذهنية التحريم، والقائمة على المنع والقطع، وعلى الإقرار بفكرة البيعة والطاعة.
إن أي قراءة سوسيوثقافية للإرهاب ستكشف عن تداعيات خطيرة على مستوى الفكر، كما على مستوى الدولة والمجتمع، وهو ما يمكن رؤيته في فيلم برتقالة آلية ـ 1971 .. لستانلي كوبريك – يعمل أليكس مالكولم ماكدويل – بعد أن حُكم عليه بالسجن 14 عاماً إثر تسببه بمقتل امرأة – مساعداً لقسيس السجن، وتُتاح له فرصة قراءة الكتاب المقدَّس ، الذي، يتأثر به! لكن حين نعرف بماذا تأثَّر تحديداً، وما الذي أحبَّه هذا الشاب – التوَّاقُ إلى العنف والدم – في «الكتاب المقدَّس»، يُعرَفُ السبب ويَذهبُ العجب.
أثناء قراءته لـ الكتاب المقدَّس تجتاح أليكس موجة من الخيالات، يستلهمُهَا مما يقرأه من قصصه، لكن بدلاً من التأثر بـ»إنسانية» المسيح، ودعوته للخير والمحبة والتسامح، يتصوَّر نفسه جندياً في إحدى معارك «العهد القديم»، وبقصص اليهود وهم يجّزون الأعناق، ويشقون البطون، ويتلذّذون بـ»جمالية» الدم، ومعاشرة وصيفات زوجاتهم.