الأديب المصريّ يوسف الشاروني يكتب عن «مباهجه» في التسعين

ولد يوسف الشاروني في تشرين الأول 1924 أي أنه على مشارف التسعين من عمره، لكن وطأة هذا العمر المديد لم تمنعه من إهدائنا كتاباً ممتعًا منحه عنوان «الشاروني ومباهج التسعين»، والعنوان مستفز إنما ليس بالمعنى السلبي، بل هو الاستفزاز المشاكس الذي يصطرع مع فكر القارئ ليتساءل: «أيّ مباهج تلك التي يمكن أن تأتي لإنسان على مشارف التسعين؟! ولو شاء أحدنا الإجابة عن هذا التساؤل عليه أن ينظر بالضرورة إلى ماضيه ويتأمل عمره المنقضي، ويرى مكتسباته، ليدرك هل كانت رحلة عمره الممتد رابحة؟ وهل عاشها كإنسان وعى أن له دوراً فى إنشاء الخلود لهذا العالم؟ إذا كانت الإجابة ببلى، فلا شك في أن في التسعين من عمر الإنسان مباهج ثرية، أقلها أنه سيجلس لتأمل ما أنجز فيسعد بما حصد.

عاش يوسف الشاروني عمرًا رابحًا، مليئا بالإنجازات. كتب القصة، ومارس النقد، ودرس الفلسفة في جامعة القاهرة، وتخرج فيها عام 1945، وعمل في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وترأس نادي القصة، وكان عضوًا في لجنتها في المجلس الأعلى للثقافة، كما عمل أستاذاً غير متفرغ للنقد الأدبي في جامعة القاهرة، وعمل مستشاراً ثقافياً في سلطنة عمان. حاز جائزة الدولة التشجيعية في القصة عام 1969، ونالها ثانية فى النقد عام 1979، قبل أن يحصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2001، ثم حصل عام 2007 على جائزة سلطان العويس. وكان نال قبل ذلك وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى عام 1970، ووسام الجمهورية من الدرجة الثانية عام 1979.

من حق الشاروني أن يقدم إلى قارئه «مباهج التسعين»، ويباهي بالعنفوان في هذا العمر، وها هو يتحدث بنفسه عن العمر الذي انقضى، قائلاً: «أشبه نفسي بالتاجر الذي يُحصي مكاسبه وخسائره في آخر يومه، فأجدني نشرت ثلاثة وستين كتاباً وأربعة قيد النشر ما بين قصة ورواية ونثر شعري ودراسات نقدية وسيَر، فلم أحدد لنفسي إبداعاً معيناً بل أطلقتها تبدع في حرية. هذا فضلاً عما تناولتني من رسائل جامعية، ومراجع، وعشرات المشاركات الأدبية من الصين شرقاً حتى أكسفورد والجزائر غرباً، ومن الدانمارك شمالاً حتى جوبا جنوباً». ويشير الشاروني في هذا السفر إلى من كتب عنهم، ومن كتبوا عنه بمحبة المبدعين، ومن قرأوا له أو قرأ لهم، ويضيف «أدّعى أنني أمثل الإنسان العادي الإيجابي، وليس البطل في حضارة القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين في وطن متواضع، سعيداً بمشواري الذي أدين به إلى من أبدعوني وأبدعنني وأبدعتهم وأبدعتهن».

من مباهج التسعين لدى الشاروني هذه القدرة على التأمل، والنظر إلى الخلف لأجل السعي نحو الأمام، فيحدثنا عن طبيعة العلاقات البشرية التي لا تنأى البتة عن الطبيعة الفسيولوجية للإنسان الذي يحكمه الزمن، فيقول: «هكذا علاقاتنا الإنسانية، لا ندرك أحياناً أنها تخضع لما نخضع له نحن: طفل يحبو، فشباب يخطو، فشيخوخة تخبو، وفي كل مرة ننسى أو نتناسى، فلا نتأهب للمصير الذي يخضع له كل حيّ، ونتوهم، ونحن في ذروة الفتوة والنشوة، أن موضاتنا أبدية، بينما ينخر فيها الزمن، كأي كائن حيّ، لنُصدم أنها تخضع لقانون التطور. ففي أفضل حالاتها تصبح صداقة، وفي أسوئها تصبح عداوة، وفي معظمها تصبح ألفة أو مجرد ذكرى. أكتب هذه الكلمات من وحي علاقات نبتت وازدهرت ثم أُحبطت، متوهماً أن بعضها أصيب بالسكتة، متجاهلاً أنها تخضع لقانون الحياة، كما أخضع له أنا، وتخضع له أنت. تذكَّر علاقاتك التي خبت، وتوقع المصير نفسه لعلاقاتك الحاضرة والمقبلة، وانزعج أو لا تنزعج، فهذا قانون الحياة سواء على الإنسان نفسه أو على علاقاته».

بعد ثلاث إطلالات افتتاحية، يتحول الكتاب إلى رحلة عبر الزمن، ويعود المؤلف ليفصل فيها تلك العلاقات الإنسانية التي تعرضت للأذى الزمني، ويذكر تاريخًا أدبيًا مهمًا في شكل مقالات، ربما لم تنشر في كتب سابقة له.

يتناول الشاروني في كتابه المنهج النقدي الثوري لدى الدكتورة أماني فؤاد، وعلاقته الأدبية بالدكتورة سامية الساعاتي، والشاعرة الدكتورة عزة بدر التي يهديها هذا الكتاب لأنها التي اختارت له عنوانه المثير، كما تناول على صفحاته ذكرياته مع الدكتورة لطيفة الزيات، وتأمل مجيد طوبيا بين إبداعه المتألق وجسده الزاوي، ويتتبع رحلة محمد جبريل بين إبداعه الورقي وإبداعه البشري، ويرسم وجوه جورج بهجوري السبعة، ويستدعي من الذاكرة صفحات كتّاب غيبهم الموت مثل: الدكتور نعيم عطية الذي فتنته اللوحة والحرف فكتب القصة وترجم عن اليونانية، ونقد الفنون التشكيلية. وتستمر إطلالات الشاروني المتنوعة، بين إطلالات على مسائه الأخير الذي وشى فيها بعلاقات عاطفية أجهدته، ويصل إلى إطلالات عن الصداقة والحب، وأخرى عن ومضات الذاكرة، وغيرها عن إبداعاته، وعن القومية والإنسانية أيضًا، ومنها ما غاص به في سراديب النفس. ونغوص معه إلى حيث أعماق سراديب النفس لنختار هذه المقطوعة التي سطرها الشاروني في هذا الكتاب، مقطوعة تقدم إلينا علاجًا شافيًا يجب أن يتناوله كل منا منذ شبابه ليستطيع مغالبة شيخوخته، يقول فيها: «إن كان لك جد في الثمانين أو التسعين- أطال الله في عمره – فربما لاحظت عليه تصرفات تضايقك، ولو أنك مضطر إلى تحملها لأنه جدك راجل كبير وعيب عليك أن تضرب بأوامره عرض الحائط. والواقع أنه، بتقدم العمر، يحدث اضمحلال وضعف في النمو العقلي والجسدي، وتظهر على جدك أو جدتك عدم القدرة على التذكر فتخلط جدتك بين اسمك واسم أخيك، بينما تروي لك ذكرياتها القديمة بدقة متناهية. ويتحول الاهتمام إلى الأمور المتركزة حول نفسها، ويقل اهتمامها بغيرها. أما جدك فتراه يتمسك بالقديم ويعارض زواجك مثلاً من زميلتك الجامعية العصرية مما يسبب لك وله كثيرًا من المشكلات. وإذا كنت حسن الحظ فإنه سيتخلى عن مباشرة أموره الخاصة ويوكلها إليك، أما إذا كان حظك سيئا فسيحاسبك على كل مليم تنفقه من أمواله حتى تخرج روحه، مما يسبب لك ولأبيك مصاعب كثيرة. أما إذا كان جدك لا يمتلك شيئًا فإن تخليه عن مباشرة أموره معناه أن تقوم أمك أو أبوك على خدمته، أملاً في أن يخدمهما أولادهما عندما يصبحان في عمر جدك. وكلما تقدم جدك في العمر عاد طفلاً في سلوكه من حيث الأنانية والاعتماد على الغير، كما تضعف غرائزه وانفعالاته، وتقل قدرته على ضبط النفس فيبكي بسرعة ويغضب بسرعة ولا يقبل النصح، وقد تعتريه أفكار اضطهادية كأن يتصور أنكم تريدون أن ترثوه وهو لا يزال على قيد الحياة. والمصيبة السوداء أن يفكر جدك في الزواج من قطقوطة صغيرة في عمر حبيبتك. والطريق الوحيد لكي تتجنب مصير جدك أو جدتك هو أن تربي لك من الآن عادات ذهنية تحفظ لك شبابك العقلي رغم تقدمك في العمر الزمني. فوجود هواية لك، مثل الشغف بالإطلاع، يمكن أن تكون بمثابة سفينة نجاتك، وأنت في مثل هذا العمر الذي يعود فيه الإنسان إلى ظلمة العدم شيئا فشيئًا. وقد سئل برنارد شو يوم بلغ التسعين من عمره إذا كان سيكف عن الكتابة فقال إن سوفوكليس، الكاتب اليوناني الخالد، ألف أعظم مسرحياته وهو في التاسعة والتسعين. وأنا أكتب هذه الكلمات وقد أشرفت على التسعين».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى