خلال بضعة أيام متوالية عاشت الولايات المتحدة، رسمياً وشعبياً، حالة فريدة من القلق والاضطراب وفقدان التوازن، على خلفية سلسلة طرود متفجّرة أرسلت لعدد من الشخصيات والمؤسسات «المناهضة» لسياسات الرئيس ترامب، تمّ اعتراضها وإلقاء القبض على ما يعتقد أنه الفاعل أتبعها حادث إطلاق النار داخل كنيس يهودي في مدينة بيتسبيرغ، بولاية بنسلفانيا، من قبل «مواطن أميركي أبيض» مشبع بالعنصرية والكراهية، وفق الرواية الرسمية.

خلال بضعة أيام متوالية عاشت الولايات المتحدة، رسمياً وشعبياً، حالة فريدة من القلق والاضطراب وفقدان التوازن، على خلفية سلسلة طرود متفجّرة أرسلت لعدد من الشخصيات والمؤسسات «المناهضة» لسياسات الرئيس ترامب، تمّ اعتراضها وإلقاء القبض على ما يعتقد أنه الفاعل أتبعها حادث إطلاق النار داخل كنيس يهودي في مدينة بيتسبيرغ، بولاية بنسلفانيا، من قبل «مواطن أميركي أبيض» مشبع بالعنصرية والكراهية، وفق الرواية الرسمية.

تمرّ البلاد أيضاً بحالة استقطاب «غير مسبوقة منذ عدة عقود» بمطالبة الحزبين مؤيديهما من الناخبين بأوسع مشاركة في جولة الانتخابات التشريعية النصفية وبعض مناصب حكام الولايات: الحزب الجمهوري أرخى العنان للرئيس ترامب للمشاركة في الحملات الانتخابية مطلقاً وعوده وتهديداته في اتجاهات متعددة والحزب الديمقراطي لا يزال خطابه حبيس هواجسه العدائية لروسيا علها تنقذ إخفاقاته السياسية في التصدي الفاعل لسياسات الرئيس ترامب. أما جمهور الناخبين فيمضي لحشد وتنظيم معارضته للسياسات الإقصائية متوعّداً بمعاقبة قاسية للطبقة الحاكمة في صناديق الاقتراع.

تموضع حالة الاستقطاب والانقسام تكسب بعداً إضافياً في مناخ الانتخابات، وتطرح أسئلة مشروعة حول توقيت أحداث العنف وإراقة الدماء «لخدمة أجندة تشديد القبضة الأمنية». أنظار المؤسسة الرسمية تذهب كما هي العادة إلى إبعاد شبهة «العنف السياسي» أو «الإرهاب السياسي» عن الفاعلين خاصة، لا سيما أنّ حادث الكنيس اليهودي قام به «أميركي أبيض» لم يصنّف رسمياً كإرهابي.

بيد أنّ الجمهور الأميركي، بشكل عام، أرسل رسالة مدوية لصنّاع القرار حول حقيقة الخطر والتهديد القائم، وضاق ذرعاً بعد تعرّض زبائن مطعم محلي في فلوريدا لحادث إطلاق نار دون مقدّمات.

وكشفت يومية «بوليتيكو»، نشرة محسوبة على تيار يمين الوسط الأميركي، عن نتائج استطلاع رأي فور وقوع الحادثتين المشار إليهما جاء فيه أنّ «58 من الناخبين اعتبروا ما جرى بأنه عنف سياسي»، توزّعت النسبة على ذوي الميول للحزبين الديمقراطي والجمهوري، وحمّلت أغلبية من الناخبين «56 منهم المسؤولية للرئيس ترامب»، لاستنهاضه خطاب العداء والإقصاء وانقسام المجتمع وخرق الاتفاقيات الدولية مما عاد بالعزلة على الولايات المتحدة.

النائبة عن الحزب الديمقراطي، ماكسين ووترز، والتي كانت أحد أهداف الطرود المتفجرة، حفزت جمهور مؤيديها على «مواجهة أيّ مسؤول من الإدارة قد يرتاد مطعماً أو متجراً أو محطة وقود، ومحاصرته بحلقة من مؤيدين يتواجدون في المكان وإبلاغه رسالة مفادها أنه غير مرحب به في ايّ مكان بعد الآن». أما الرئيس ترامب فقد أشاد بتوجيه نائب عن الحزب الجمهوري لكمة مباشرة لصحافي معتبراً التصرف نموذجاً «يمثلني».

المؤسسة الإعلامية الأكبر، شبكة «سي أن أن» للتلفزة، التي يكنّ لها الرئيس ترامب عداءً لا يضمره بل يردّده في كلّ مناسبة وبدونها، علقت في إحدى نشراتها الإخبارية على أحداث العنف السياسي بالقول إنّ «الرجل الأبيض» المدجّج بالسلاح يشكل أكبر تهديد إرهابي على الولايات المتحدة، ووجهت النقد للجهات الرسمية لعدم «فرضها حظراً على الرجل الأبيض» المسلح.

رجالات المؤسسة الأمنية الأميركية أيضاً يحمّلون مسؤولية التدهور الأمني لخطاب الرئيس ترامب الشعبوي والمفرط في السطحية.

استضاف معهد الأمن القومي التابع لكلية الحقوق في جامعة جورج مايسون، بضواحي العاصمة واشنطن، جلسة حوارية مطلع الشهر الحالي حول «التهديدات والتحديات أمام المؤسسات الديمقراطية»، شارك فيها المدير السابق للاستخبارات الوطنية، جيمس كلابر، ومدير «سي أي آي» الأسبق، مايكل هايدن.

كلابر الذي كان أحد أهداف الطرود المتفجرة، حمّل الرئيس ترامب المسؤولية المباشرة عن تنامي أحداث العنف «نظراً لأنّ مفردات خطابه لها دور مباشر في تجسيد نزعة التطرف.. وهي ليست بعيدة عما خبرته في التعامل مع تنظيمات مشابهة كداعش، الذي أتقن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتجنيد عناصره»، في إشارة واضحة لمواقع التواصل التي تروّج للخطاب العنصري والشعارات النازية في الداخل الأميركي.

وأضاف ساخراً من الرئيس ترامب «.. استمرار العبقري المتزن في استنهاض نزعات من شأنها تأييد هذا النمط من التصرف، تقود إلى أننا مقبلون على تلقي مزيد من ذلك، وانا مقتنع بما أقول».

وشاطر هايدن في مداخلته زميله كلابر واستنتاجاته التي ذهب إليها في «.. تطابق مطالب المتشدّدين مع خطاب ينسجه رئيس الولايات المتحدة».

الفاشية ليست تهمة

الدوائر الرسمية والمسؤولون الأميركيون شديدو الحرص على نفي وجود ظاهرة الفاشية في المجتمع، بخلاف بعض النخب والمفكرين البارزين.

وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، مادلين أولبرايت، أصدرت كتاباً منتصف الصيف الماضي بعنوان مثير ومباشر «الفاشية: تحذير»، باللغتين الانكليزية والألمانية في وقت واحد، استعرضت فيه مراحل صعود الظاهرة وأفولها في أوروبا في القرن العشرين، كتيار سياسي مؤثر يتمتع بدعم شعبي داخل عدد من الدول الغربية بما فيها «بريطانيا والولايات المتحدة نفسها» محذرة من عودة الحركة الفاشية لسابق عهدها، وأنه «.. ليس هناك ما يمنع تدحرج الأمور مجدّداً إلى تلك الهوة المظلمة». ووصفت الرئيس ترامب وما يمثله بأنه «أول رئيس معادٍ للديمقراطية في التاريخ الأميركي بأكمله».

تحذيرات أولبرايت وآخرين لها ما يدعمها من وقائع حية في مجمل الدول الغربية أبرزها «الانقسامات وحالات الاستقطاب.. وتفاوت الفرص والمنافع الاقتصادية دون أفق لتقليصها حتى على المدى المتوسط». وشدّدت في تحذيرها على صعود «السياسيين الشعبويين إلى مواقع السلطة» وخطابهم المؤثر «عبر التلاعب والخداع» وتوجيه الأنظار نحو «عدو متخيّل» دون التقدّم بحلول حقيقية للأزمات البنيوية.

لهجة التحذير المشار إليه أخذت بعين الاعتبار صعود رمز «ومبشر الفاشية» في الإدارة الأميركية، ستيف بانون، الذي احتفظ بلقب «مستشار رئاسي للشؤون الإستراتيجية» ومضى لنشر أفكاره في أوروبا، بعد إعفائه من منصبه في البيت الأبيض، عبر مؤسسة سياسية وفكرية، أسماها «الحركة»، ترمي لإطلاق ثورة شعبوية يمينية حاضنتها الأحزاب اليمينية الراديكالية، لتشجيع اليمين المتطرف في أوروبا الوصول إلى مراكز السلطة، كانت أولى ثمارها صعود رئيس وزراء يميني في إيطاليا، جوزيبي كونتي.

تجدر الإشارة إلى الدور المحوري لبانون في توجيه وصقل خطب الرئيس ترامب واستحداث «عدو» ما في كلّ مناسبة، أبرزها خطاب التنصيب، كانون الثاني/ يناير 2017، الذي تضمّن مفردات «الفاشية الإسلامية.. والإسلام الراديكالي». واستطراداً، توجه بانون للنشاط في أوروبا يرمي لتحقيق جملة من الأهداف منها «محاربة الوجود الإسلامي»، واستنهاض موجة العداء الطائفي أثمر في إعادة انتخاب رئيس يميني متطرف للمجر، فيكتور اوربان.

التحذير من صعود الفاشية الأميركية تناوله الخبير الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، بول كروغمان، في مقال نشره في يومية «نيويورك تايمز»، منتصف أيلول 2018، قائلا «..إنّ الحزب الجمهوري على أتمّ الجهوزية ليتحوّل إلى نسخة أميركية عن حزب العدالة والقانون البولندي الحاكم، مستغلاً نفوذه السياسي» الواسع. وأوضح أنّ الولايات المتحدة في نسختها السياسية الراهنة «.. تعاني من نفس الأعراض العنصرية البيضاء التي تجتاح العالم، والذي استطاع تدمير الديمقراطية في دول غربية أخرى، ونحن قريبون من نقطة اللاعودة».

التحذير جاء أيضاً على لسان أحد أبرز «مفكري» المحافظين الجدد من اليمين الأميركي، روبرت كاغان، في غمرة حملات الانتخابات الرئاسية الماضية قائلاً «.. الحركات الفاشية لا تتجسّد في فراغ ما لم تتوفر لها ايديولوجية متماسكة.. الفاشية لا تنجح بالبرامج السياسية فحسب، بل في التفافها حول رجل قوي، باستطاعته التغلب على أيّ تهديد دون الاضطرار إلى شرح كيف يتمّ ذلك». واشنطن بوست، 18 أيار/ مايو 2016

لعلّ السؤال المنطقي عند هذا المفصل يتمحور حول مدى «تجاوب» وتناغم مرشحي الانتخابات النصفية مع الخطاب الفاشي. في زمن وفرة المعلومات وآليات التدقيق الفوري لا يستعصى على المرء استكشاف تصريحات متعدّدة لمرشحين «عن الحزب الجمهوري» تفوح منها العنصرية وتمجّد «العنصر الأبيض».

أحدهم مرشح لمقعد نيابي عن ولاية كارولينا الشمالية، راسل ووكر، أعلن أنه «لا ضير في أن يكون المرء عنصريا». الوكالة الفرنسية، 30 تموز/ يوليو 2018 . ولعلّ ما يضاعف منسوب القلق حضور المرشح الجمهوري عن ولاية ويسكونسن، بول نيلن، والذي من المتوقع أن يتسلّم منصب رئيس مجلس النواب خلفاً لسلفه المتقاعد عن الولاية عينها، بول رايان، في حال احتفظ الحزب الجمهوري بأغلبية مقاعد مجلس النواب.

نيلن يصنّفه مؤيدوه ومناوئوه على السواء بأنه ركن موثوق لتيار اليمين المتطرف اليمين البديل، ينتظر ممارسة دوره القيادي ليمنح امتيازات عالية «للقوميين البيض» وتعيينهم في مناصب سياسية وثقافية حساسة. المرشح الجمهوري لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية فرجينيا، كوري ستيوارت، أثنى على زميله نيلن ووصفه بأنه «أحد أبطالي الشخصيين». تزامن تقييم توجهات نيلن العنصرية مع ارتفاع معدّل حوادث استدعاء الشرطة من قبل «أميركيين بيض.. يشتكون فيها من حضور أفراد ذوي بشرة داكنة» وهم يقومون بأداء أعمال اعتيادية، أدّت في إحدى المناسبات إلى اقتياد الشرطة لشابين أسودين مكبّلين بالسلاسل من داخل مقهى «ستاربكس» كان يجلسان فيه بوضعية عادية.

هل الفاشية حتمية؟

علماء الاجتماع الأميركي مولعون بنظرية «ستراس هاو العابرة للأجيال» لتعقب الأزمات والتكهّن بالمستقبل والتي ترتكز على فرضية أنّ التاريخ البشري يتحرك وفق أربع «حقبات متتالية» تشكل دائرة كاملة من التطور. ما يهمّنا في هذا الشأن «الحلقة الرابعة»، والتي توصف بحقبة الأزمات من خصائصها انتشار «.. الفوضى السياسية، الانقسام، التآكل الاجتماعي والاقتصادي» مما يحفز فئات المجتمع الأميركي على التغوّل والتطرف. اما نهاية «الأزمة» لن تتأتى إلا بعد نشوب نزاع شامل يؤدّي بالأميركيين إلى التوحد «اضطرارياً» وبناء مستقبل أفضل

حالة الانقسام الحادة والتطرف المنتشرة في مناخ الانتخابات «النصفية» لها ما يبرّرها وفق النظرية أعلاه. فالمتشدّدون على جانبي التجاذب السياسي سيرفضون بقوة نتائج الانتخابات، خاصة انّ الاتهامات بالتزوير لاحت بوادرها منذ الساعات الأولى لتطبيق «التصويت المبكر»، في عدد من الدوائر الانتخابية. وكلما كانت النتائج النهائية متقاربة بين الفريقين ستتعزز فرص اندلاع العنف والإقصاء تحصد ضحايا جدد من كافة الفئات الاجتماعية والتوجهات السياسية.

ما يزيد منسوب القلق على المستقبل أيضاً رصد التوجهات السياسية للقوات العسكرية، لفريقين من المؤيدين والمناهضين للرئيس ترامب. وأوضحت نشرة تختصّ بالشؤون العسكرية ميليتاري تايمز، الشهر الماضي، وفق استطلاع للرأي أجرته بأنّ قوات سلاح البحرية، المارينز، هي الأشدّ ميلاً لتأييد الرئيس ترامب في المقابل كان سلاح الجو هو الأشدّ عداء له. بالإضافة لذلك، جاءت النتائج لصالح ترامب بنسبة عالية من قبل المجنّدين الرجال على نقيض مناهضة المجندات من النساء.

تلك الأجواء المشحونة والمشبعة بالتطرف لا تنبئ بمستقبل يسوده السلم الأهلي، خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار تباعد الفوارق الطبقية بين أصحاب رؤوس الأموال والمصرفيين وبين معظم الفئات الشعبية الأخرى.

التاريخ البشري القريب يحذرنا من تجذر الفاشية كمثيلاتها من «وقائع جسيمة وشخصيات تاريخية تظهر مرتين.. الأولى كمأساة والثانية كمهزلة».

نشرة دورية تصدر عن وحدة «رصد النخب الفكرية» في مركز الدراسات الأميركية والعربية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى