إيليا أبو ماضي… شاعر الأغنية والأمل و»سمير» الصحافة والمقالات

سليمان بختي

الشاعر الشاعر إيليا أبو ماضي 1889 1957 معاصرنا دائماً وأبداً فلا مرّ وقت أو سيف ولا عبرت غمامة. كلما ذكرناه أو تذكرناه راح يعلّمنا كيف نربي الأمل، وكيف يعبر بخفّة مرحة إلى قلوبنا وهو القائل: «اثنان أعيا الدهر أن يبليهما… لبنان والأمل الذي لذويه». على هذا الأمل بنينا الحياة والحلم والوطن، ولا نزال.

لبث إيليا أبو ماضي يتنزّه بين الجمال الطبيعي والجمال الأخلاقي، وما فصل بينهما وهذا سرّه. نقل الحسّ الرومنطيقي إلى مزايا وفضائل وقيم مستعيناً بالحكاية أو الصورة أو الحوار.

لبث يتنزّه بين الجمال والحب ليدرك المعرفة والحكمة والتأمّل والتساؤل والحنين. يقول: «أنا بالحب قد وصلت إلى نفسي، وبالحب قد عرفت الله». لم نعرف قبله تلك الوجودية الغنائية الإنسانية. نندهش من بساطة بيانه وسلاسة أسلوبه واتساع كل ذلك لمضامين الحياة الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والنفسية. ظلّ يهمي كالندى بلا توقف حتى صحّ فيه قول أبو العلاء المعري والغيث أهنأه الذي يهمي وليس له رعود. ولكن إذا كان إيليا أبو ماضي اعتبر أحد اكبر شعراء المهجر ولقب بشاعر الفكر فهو على غرار الكثيرين من الأدباء والكتّاب والصحافيين اللبنانيين الذين أسّسوا وتأسسوا من خلال الصحف. فكيف بدأ مشواره في الصحف وما هي محطاته الرئيسة؟

تخرّج من المدرسة اليسوعية الابتدائية في بكفيا شاعراً على مدرسة بكفيا أن تفخر أنها خرّجت شاعراً كبيراً بالابتدائية والباقي درسه على نفسه، وفي الليل «كنت أدرس النحو والصرف تارة على نفسي وتارةً في بعض الكتاتيب». وهكذا كانت ثقافته نسيجة نفسه وشغل بيت. هاجر إلى الإسكندرية في العام 1901 تاركاً خلفه قرية وادعة معلقة بأهداب الجبال وأذيال السحب على حواشيها أشجار وحقول وطيور. ولبث في حلّه وترحاله يحنّ إليها حنيناً صادقاً ومستحيلاً. وكتب «ولكن صورة واحدة لا تنمحي من ذاكرتي ولا تغيب عن مخيلتي وهي صورة أمي».

نشر في الإسكندرية أول قصيدة له في مجلة «إكسبرس الأسبوعية» ثم في مجلة «الزهور» التي أصدرها أنطون الجميل في الإسكندرية 1910-1913 ومع نشره بعض القصائد في الصحف إلا أنه توّج هجرته الأولى بطبع ديوانه الأول «تذكار الماضي» على نفقته الخاصة وعلى مطابع المطبعة المصرية.

أما هجرته الثانية الكبرى فكانت إلى أميركا وكان معه كتابه في يمينه وجوّ الطبيعة في لبنان وحنينه إلى وطنه وجوّ الثقافة والحرية في مصر، وكانا ركنين أساسيين في تكوينه روحياً معنوياً. وكتب في ما بعد معبراً عن حنينه وشوقه إلى مصر ولبنان. في قصيدته «عيد النهى»: «وطنان أشوق ما أكون إليهما، مصر التي أحببتها وبلادي».

إلى سينسيناتي ـ أوهايو مساعداً لشقيقه مراد في متجر الدخان. وهناك تعرّف إلى الصحافي نجيب دياب الذي كان يصدر في نيويورك جريدة «مرآة الغرب» ونشر فيها أول قصيدة له وكانت بعنوان «أمّة تفنى وأنتم تلعبون» وما أشبه اليوم بالأمس. لم يطب له المقام في سينسيناتي كثيراً ووصل إلى نيويورك في عام 1913 وبدأ يحرّر في «المجلة العربية» التي كان يشرف على تحريرها بعض الشباب الفلسطيني المهاجر. بعد فترة ترك عمله في تلك وعمل محرّراً لجريدة «الفتاة» لصاحبها السيد شكري بخاش الذي عاد في ما بعد إلى الوطن وأسّس مجلة «زحلة الفتاة». ومن ثم تحوّل إلى تحرير مجلة «مرآة الغرب» التي يصدرها نجيب دياب وتزوّج في ما بعد ابنته وقضى عشر سنوات يكتب وينقّح في المجلة.

في العام 1920 أصبح أبو ماضي عضواً فعالاً في «الرابطة القلمية» التي أسسها جبران وساعده نعيمه. وصحيح أن ديوان «إيليا أبو ماضي» الصادر عام 1918 كتب مقدمته الكبير جبران، وصحيح أن ديوان «الجداول» الصادر عام 1927 كتب مقدمته ميخائيل نعيمه وكلاهما أغدق عليه الثناء والإشادة. إلا أن علاقته بالرابطة القلمية شابها بعض الجفاء. علّموه في الرابطة القلمية «كيف يجفو فجفا» وردها أبو ماضي إلى أنهم يظنون أنفسهم آلهة ويعرفون بعضهم قبل وصولي وقبل تأليف الرابطة، وكانوا معروفين في الوسط الأدبي وعاملوني باستعلاء. وهكذا أنا لم أفعل سوى مبادلتهم الشعور». ولكن كل ذلك لم يفسد للود قضية ولا للإبداع باب. أسمعه يصف جبران في «صورة قلمية» يقول: «كيف ذاب في الفنّ وذاب الفنّ فيه. ولوع بالموسيقى لا سيما الشرقية. إذا شاهدته مصغياً إلى صوت الناي أو إلى صوت العود خيّل إليك من هيئته كأن روحه تصعد مع الأنغام وتمتزج بها امتزاج الندى بالنور، وربما لمحت في أجفانه إثر الدموع».

تركناه قلقاً في مجلة «مرآة الغرب» ويحاول الخروج ويعمل جاهداً على إصدار مجلة، أو جريدة تحمل اسمه ويعتمد عليها في حياته. وهكذا كان، فطاف لأجل ذلك على أبناء الجالية، كما وجد نفسه يرهن صكّ التأمين على حياته ليوفر نفقات إصدار أول عدد من مجلة «السمير» وكان ذلك في 15 نيسان 1929 وشعارها بيتان: «أنا لا أهدي إليكم ورقاً غيركم يرضى بحبر وورق، أنما أهدي إلى أرواحكم فكراً تبقى متى الطرس احترق».

ويكتب: «أجل لقد رجعت إلى حومة الصحافة لأنني أحسب كل يوم أنفقه من غير خدمة قومي وبلادي ولغتي ليس من عمري». في العام 1932 حوّل «السمير» من مجلة أدبية إلى جريدة سياسية. وواجه في سبيل ذلك المتاعب والمشقات والأزمات المالية والاقتصادية. وظلّ يكتب ما اسماه «اليوميات» في «السمير» ويكتب تحت اسم «هو» ويكتب تحت اسم «فيكتور» ويكتب حتى عرفت تلك المقالات ذيوعاً وانتشاراً في المهجر والوطن.

وكتب ميخائيل نعيمه يقول: «في ما يتعلق بنثر أدباء المهجر الشمالي فلا يوجد في نظرنا سوى مقالات جبران وكذلك بعض المقالات التي كان يكتبها إيليا أبو ماضي».

أعطى إيليا أبو ماضي مجلة «السمير» ثم جريدة «السمير» جذوة عمره وضوء عينيه وطرقات قلبه. وكانت هي، أي «السمير»، الألف والياء في حياته. وظلّ يعتبر أن الصحافي كالعاشق لا يعلم أن في العشق هلاكه ومع ذلك لا يهرب من العشق إلا إليه.

وحضّ في كتاباته على الإصلاح والدعوة إلى الأخلاق الفاضلة والأمل والخير. ويوجّه الناس إلى ما يراه حقاً وخيراً وكرامة ويعزّز الحسّ الإنساني ويزيل الخوف من قلب الإنسان.

خاض إيليا أبو ماضي المعارك الشرسة مع الجرائد التي نافست «السمير» فأثار السجال مع «مرآة الغرب» وكتب مقالاً ضدها بعنوان إلى «مرآة الغرب» أو الأيدي التي وراءها. وكذلك فعل مع «جريدة الهدى» التي أسّسها نعوم مكرزل وفي الفترة التي رأس تحريرها الشاعر الراحل يوسف الخال بين العامين 1954 و1955 على خلفية المنافسة لاستقطاب تأييد الجالية اللبنانية والعربية في أميركا. وكانت «صفحات الهدى» و»السمير» مسرحاً لهذه المعركة. كانت جريدة «السمير» تستنفد كل لحظة في حياة أبو ماضي ويقول: «وتستأثر بي في المكتب والبيت والمجتمع وتسدّ عليّ الطريق إلى دنيا الشعر. وافتتاحياتي في «السمير» هي تفاصيل لموضوعاتي الشعرية. هذا التنازع بين الصحافي والشاعر فيه استمر حتى آخر أيامه.

وقد كتب غير مرة في «السمير» عام 1931 يعاتب تجار الجالية اللبنانية أولئك الذين أراده شاعراً وحسب، بالقول: «إن العين لا تقاوم مخرز فلان يتحطم مليون مخرز خير للعالم من أن تفقأ عين واحدة».

روى لي الصديق علي غندور وهو من القلائل الذين عرفوا أبو ماضي في نيويورك وأحبّوه وصادقوه. أنه أثناء دراسته في نيويورك كان يطيب له السهر مع إيليا أبو ماضي والغرف من ثقافته في الشعر العربي قديمه وحديثه، وأيضاً من حسّه المرح وطبعه المتفائل دوماً. وقال: «إن «السمير» كانت سميراً صحيحاً للشاعر وعلى منبرها عالج وطرح القضايا الاجتماعية وتلقفت مقالاته الجالية اللبنانية والعربية لأنها ربطتهم بوطنهم وتابعوا من خلال هذه المقالات الأحداث في لبنان والمشرق».

لبثت الصحافة مهنته الأدبية وظلّت «السمير» ترافقه كالظل حتى الهزيع الأخير من ليله حيث تعب القلب ووجع الروح. ولكن ايليا أبو ماضي أقام بين الصحافة والشعر جسوراً تفاعلت في قصائده وطرائق تعبيره، وكان خير من يعبّر عن الفكرة في شعره حتى يبدو الشكل جلداً رقيقاً لصيقاً بالمضمون. وحتى غدا الشعر عنده رحيق المعرفة والأفكار والعواطف واللغة الإنسانية. ولا عجب أن تحمل اشعاره تلك الغنائية الرقيقة العذبة التي دفعت بمحمد عبد الوهاب إلى اختيار قصيدة «لست أدري» للغناء ثم غناها عبد الحليم حافظ. وكذلك غنى له ناظم الغزالي قصيدة: «أي شيء في العيد أهدي إليك يا ملاكي». وغنّت له فيروز «وطن النجوم» و»ايها الشاكي» والأغنيتان من تلحين خالد أبو النصر وليس الأخوين رحباني. «وطن النجوم» تلك القصيدة الرائعة التي أيقظت كل مهاجر على وطنه. وكتب عنها الأديب سعيد تقي الدين في كتابه «غبار البحيرة» 1948 «رجعت إلى بلادي بعد غياب في الفيليبين وكتبت الكثير عن عودتي، لكن الهزة الكبرى أطلقها إيليا أبو ماضي حين عاد وأنشدني «وطن النجوم أنا هنا… حدّق أتذكر من أنا».

تبقى أخيراً ثلاث نقاط ونحن في تحية مستحقة لإيليا أبو ماضي:

إننا أمام تجربة إنسانية إبداعية كبيرة في الصحافة والشعر. تجربة حقيقية لا ادعاء فيها وهذا ما يفسر تصالحه مع نفسه ومع القارئ. وهذا ما حدا بالياس أبي شبكة على القول بأن إيليا أبو ماضي «يصل ياقوتة الشعر بلؤلؤة الحقيقة».

إنه لم ينسَ أبداً حبه للبنان ولهذه الأرض وازهارها وسفوحها وروابيها وقد ملأت قلبه بالدفء وعينه النور. لبنان عنده خدمة أمة وبلاد «أنا لا أرى شرفاً أعظم ولا مجداً أسنى من أن أجعل قلبي وقفاً على خدمة أمتي وبلادي». لبنان عنده قطعة من الوجود تساوي الوجود كله. صلاة ترفعها الأرض إلى السماء بل هو سماء. «فإن لبنان ليس طوداً ولا بلاداً لكن سماء».

إن تكريم الأديب بنشر أعماله وآثاره ولا تزال مئات المقالات في صحافة المهجر تدعونا لأن نحرّرها من الظلمة إلى ضوء الحب والحياة والنور إلى ضوء الحق والخير والجمال، إلى الأمل الذي أعياه ولم يجد ظلاًّ يستظلّ سواه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى