قمة العشرين: الأولويات العالمية أولويات لبنانية
د. فريد البستاني
تنعقد خلال أيام قمة العشرين في بيونس آيرس بالأرجنتين، ويلتقي قادة العالم الذين يمثلون الدول الأكثر إسهاماً في النشاط الاقتصادي، سواء بمواردهم الطبيعية أو بنسبة تطوّرهم الصناعي أو بحجم إنتاجهم القومي، ويضع المشاركون للمؤتمر، الذي يهتمّ الإعلام غالباً باللقاءات السياسية التي تعقد على هامشه، جدول أعمال اقتصادي يغيب في معظم الأحيان عن الاهتمام الذي تخطف السياسة أضواءه.
جدول أعمال قمة بيونس آيرس يتوزّع على ثلاثة عناوين، هي مستقبل العمل والبنية التحتية للتنمية والمستقبل الغذائي المستدام، ويرغب الخبراء الذين قاموا بالتحضير للقمة بأن يناقش القادة هذه القضايا بهدف التوصل لتفاهمات تسهم برفع نسب النمو وتحريك عجلة الإقتصاد العالمي، وقد اختاروا لقمّة هذا العام مستقبل العمل كعنوان يلخص التحديات التي ستواجه السعي لزيادة فرص العمل في الأسواق مع ارتفاع نسبة الاعتماد على الذكاء الصناعي، سواء عبر توسّع استخدام الحواسيب أو التوقعات المتصلة بالاعتماد على الأشخاص الآليين، ومواجهة التحدي تستدعي البحث بأنواع العمل النوعية التي تتصل بالمهارات العالية والذكاء البشري غير النمطي والقادر على استيعاب المتغيّرات السريعة والتأقلم معها، بينما يتضمّن العنوان الثاني محاولة للتمييز بين البنى التحتية للخدمات التي يقع على عاتق الدول القيام بها من ضمن عائداتها الضريبة التي يتمّ تحصيلها من مواطنيها، والبنى التحتية المرتبطة بالتنمية والتي يمكن تمويلها من موازنات التنمية، وتقاس الفوارق بنسبة مساهمة مشاريع البنى التحتية الخاصة بالتنمية عن تلك الخدماتية بعدد فرص العمل التي تخلقها بعد إنجازها وليس أثناء إنشائها، وبنسبة المساهمة التي تقدّمها في توسّع الإنتاج، ويتقدّم التعليم والصحة والإسكان مجالات النبى التحتية للتنمية، رغم أهمية الطرق والكهرباء وسواها من البنى الخدمية في تحسين شروط التنمية، ويتوسّع العنوان الثالث في شأن الغذاء بكيفية تخطي البشر لمخاطر عدم كفاية الإنتاج الغذائي للحاجات الإنسانية المتعاظمة مع زيادات السكان وتغيّر أنماط الحياة، بحيث يتمّ التركيز على الزراعات النوعية ذات القيم الغذائية العالية، من ضمن التشجيع على الإكفتاء الغذائي الذاتي لدول العالم.
نواجه في لبنان تحديات مختلفة وربما متخلفة كثيراً عما ستناقشه القمة العالمية، ومنشغلون نحن مثلهم بالسياسة، عما هو أهمّ، وهو الاقتصاد الذي يضغط على حياة الناس حتى خنقهم وربما تكسير عظامهم، لكن التعمّق في العناوين سيجعلنا نراها مناسبة لنا كلبنانيين إذا كانت عقولنا لا تزال تعمل بصورة طبيعية وتعرف الأولويات، فتحدّي فرص العمل أمام منافسة من نوع آخر غير الذكاء الصناعي تواجهنا في لبنان، وهي منافسة شبيهة لناحية ارتباطها بشغل المهن التي تحتاج مهارات نمطية، وحاجتنا لتطوير فرص عمل ومهارات ترتبط بذكاء نوعي وقدرة عالية على التأقلم يشتهر اللبناني بإتقانها، فمن جهة نحن مطالبون من هذه الزاوية بالإسراع في بلورة خطط وطرق عمل لتخفيض عدد النازحين المقيمين في لبنان، وتخفيض نسبة انخراطهم في سوق العمل، ومن جهة موازية نحن معنيون بالبحث عن كيفية تحسين تعليمنا المهني والتقني لضخ مهارات نوعية في أسواقنا ترفع مستواها وتزيد نسبة الفرص أمام شبابنا، وتحدّ من تدفقهم على أبواب السفارات طلباً للهجرة، ومن المهم أن نعلم أنّ نسبة التخمة التي نعيشها في الأسواق في الاختصاصات الجامعية العالية يوازيها نقص هائل في المهارات الوسيطة ويحول العائق الثقافي والتعليمي دون توافر المزيد منها، ما يصحّح ميزان العرض والطلب في سوق العمل.
كذلك في البنى التحتية، رغم حاجاتنا الملحة للتوسع في بناء بنى الخدمات خصوصاً في الكهرباء، لكن آن الأوان للتمييز بين كونها فرصة اقتصادية يمكن للقطاع الخاص القيام بها، مثلها مثل الكثير من البنى التحتية الأخرى، وبين كون البنى التحتية للتنمية مسؤولية حصرية للدولة، حيث يغني القطاع الخاص هذا النوع من القطاعات لكنه يعجز عن ملء الفراغ الذي يجب على الدولة تحمّل مسؤولياته الرئيسية، سواء في التمويل الكلي أو الجزئي، كحال قطاع الإسكان، أو التمويل والإنشاء والإدارة كحال القطاعين الصحي والتعليمي، حيث تشكل المستشفيات الحكومية والمراكز الصحية من جهة والمعاهد التعليمية الفنية والتقنية من جهة أخرى، أولويتان تترجمان مفهوم الإنماء المتوازن المنصوص عليه في اتفاق الطائف، والذي لم يكن متوزاناً يوماً.
أما في المستقبل الغذائي المستدام، فليس من يحتاج أكثر من لبنان لخطة غذائية واستراتيجية اقتصادية لقطاع المنتجات الغذائية، وهو الذي ينفق أربعة مليارات دولار سنوياً على هذه المنتجات التي يستورد ثلاثة أرباعها، بينما يتمتع بميزات تؤهّله للاكتفاء الغذائي ببرمجة مزروعاته وتشجيع صناعاته الغذائية ودعمها، بدلاً من إنفاق الكثير من الجهد والمال على تسويق تصدير فائض زراعي يعاني من الكساد أكثر فأكثر، فمنذ خمسة عقود تحدثت خطط مجلس الإنماء والإعمار عن الزراعات النوعية للأعشاب الطبية والبذار والورود وتشجيع مزارع الأبقار ومعامل الألبان والأجبان المرتبطة بها، وتوفير اكتفاء ذاتي في سوق اللحوم، وإعادة رسم الخارطة الزراعية بالتناسب مع حاجات السوق المحلية، لكننا لا نزال نضع الخطط ولا ننفذها.
وضع رئيس الجمهورية مع فريق عمله خطة للنهوض الاقتصادي تنتظر الحكومة الجديدة لتتحوّل إلى برنامج عمل نأمل أن تتاح له الفرص العملية ليبصر النور، لأنّ لبنان يحتاج أكثر من أيّ وقت مضى للتفكير بالاقتصاد والتوحد حوله، أكثر من الانشغال بالسياسة والتفرّق حولها.
نائب في البرلمان اللبناني