نبيذ الموت ديوان الشاعرة نسرين كمال.. انزياح زلق بتوغلها في لحظات إنسانية وكونية في آن

أمين الذيب

المُقلق في ديوان الشاعرة نسرين كمال، بعثرة الزمان في أماكن متعدّدة، استحوذت عليها بشغف العاشق الممهور بالغياب، فكأنها تُطمئن وجعها باستحضار شواهد أشدّ وطأة وبلوغاً. فالنبيذ خليل الروح ومسلك اندياحها، إلا عند المطعون غيلة، فيبدل النبذ مسراه ليخرج مظلوماً من كوة الجراح كما حدث مع عمر بن الخطاب أو مع شكسبير، مع افتراق معنى ثقافة الالم عن النص الموحّد لاختلاف أنواعها وتعددها وتشعبها. فهو تارة موت الروح وأطواراً موت الجسد، وفي كثير من الأحيان موت الأدب، وفي مجمل الحالات يبقى نبيذ الموت شاهد الشاعرة ومدار ارتحالاتها المضنية والشفافة في آن.

المُمتع في ديوان الشاعرة نسرين كمال، بعثرة فراشاتها في أمكنة الحروف، فأحياناً تعتقدها لاهوتاً يهذي وحيناً تراها ناسوتاً يمدّ كلتا يديه ليلتقط بعض أسرار الكون الشاردة عن وعيها ولا وعيها في التمظهر والانزياح ذاتهما. هي دائرية ومبعثرة، كنسمة تبتكر مساراتها المغايرة بصعوبة حيناً وبرهافة في معظم الأحيان، كمن سئم الكوكب المأهول بالتراتيل والشعوذة يبحث عن النقاء في أوردة الروح المنسلّة من رحابة الكون.

المُتعب في ديوان الشاعرة نسرين كمال، أن عوالم قصائدها دائرية ومتصلة بإبداع غير وظائفي، متوجسة متسائلة قلقة، ولكنها غير حاسمة كأنها فضاءات لا تدرك نهاياتها، كل حيوية احتمال وكل احتمال زمان لا يتكرّر، فكي تدخل عالمها عليك أن تسلكه قصيدة قصيدة، لحظة لحظة، خيبة خيبة. ففي قصيدة انتظار غودو مثلاً، تستحضر الأحداث مسرحية بلزاك، ولكنها لا تحكي حكاية بقدر ما هي محاولة لسبر حالة سكونية. لا شيء يحدث، لا أحد يأتي أو يذهب، فانتظار الربّ هو مظهر أساسي للنشاط الإنساني، نحن ننتظر من ولادتنا حتى موتنا، ولا نعي كيف يتسرّب الزمن. وهذا ما سعى بيكيت في تحليله لعمل مارسيل بروست في روايته عن الزمن المفقود، هي جدلية العالم التاريخية ومحاولة فهم علاقة الإنسان بالكون أو الخالق.

المُنتحِرون، قصيدة تطرح أزمة العلاقة الحادة بين المبدع المُنتفع من رحابة خياله والحياة، بين الحركة والجمود، بين المُتخيّل والواقع، بين التطوّر والركود. القصيدة تضعنا أمام صراع وجودي بين المُبتكَر والسائد. هذا الصراع الذي لم يحتمله المتوقدون فكان خيارهم الانتحار، أرنست همنغواي، سيزار بافاري، باول سيلان، بوكو مشيما، باتسوناري كورباتا وخليل حاوي. وهذا ما عبّرت عنه الشاعرة: الثقوب السوداء تمتصُّهم حين يُصبحُ ثقلُ الموت أكثرَ من احتمالِ جسدٍ واحد.

العطش، قصيدة عرفانية، المسافرة في مكنونات الوجود، المُكاشفات شبيهة المنامات، تتوارد بدافع الحركة الإنسانية وانسيابها المعرفي. هذا الامتلاء الذي تسعى اليه الشاعرة، وكأنها تشحن نفسها لتطال المكبوت في المعنى، هذه الطرائق لها مسالكها، المفاجأة في هذه القصيدة التي تسعى إلى كشف الحُجُب، وكأن عشتار القابضة على الغيوم البعيدة تقول، لو كُشفَ الغطاء ما ازددتُ يقيناً. وعشتار هنا ترمز الى ربة الأمومة، وأم الربات، هي نفسها الآلهة إينانة السومرية، الآلهة الأم العذراء، فهي والبعل يرمزان الى الشمس والقمر، مسألة اكتمال اللاهوت بالناسوت.

ثنائيات، قصيدة مغايرة تتخطّى الواقع لترى ماهية الجوهر الذي يجرّد الشعور من ماديته، فأرقى الأحاسيس هو الذي يطهّر رغائبنا ليرقى بها الى إنسانية متماهية مع جمالية الكون وأبعاده الروحية الشفافة المتراقصة على أهداب الرؤى المتناهية الى أقصى مداراتها وأبعادها وارتحالاتها. إنه تجاوز الراهن الشعوري بحيث تنتفي معالم الوقوع في حب أحدهم، فلا تستحيل بالضرورة ضرورة الحب المباشر، فالقلب يعطّل العقل نهائياً، ويقرّر الاستمرار في العلاقة لأن مبدأ الحب وحده يكفي أن يعمي ويحجب الشخصية العاشقة عن رؤية الواقع وحيثياته دون إدراك منه لفعل الحب.

الحضارة، قصيدة إيداع الذاكرة في مكامن الانبعاث، البلاد العتيقة تحوم كعطر مخنوق . تحاول الشاعرة تحرير المفاهيم المتراكمة عنوة في ذاكرتنا الحضارية، المقدّس، التخلف، الانحطاط، عوامل خنقت عطراً يرفض إلا أن يفوح، العطر عند المرأة حضور وغواية، فإن ماتت الحضارة تموت الأنوثة، أو تختنق، تُسجَن كينونتها، لذلك ترى الشاعرة ان الحضارة تحتاج الى السلام كمنطلق للإبداع، الفنون والعلوم والشعر من الركائز التي تقوم عليها الحضارة، كنظام اجتماعي يعين الإنسان على الريادة في إنتاجه الثقافي، المظاهر البراقة الخادعة لا تعكس حقيقة الغرقى في القاع، الرهافة تُؤلم النظرَ فكيف إذا اختلط حبر الوهم بالماء المالح، وكأنها ترمز الى حكايات نوح في السفن التي ابتلعت وجهتها. قصيدة الحضارة ثورة على التقاليد البالية تلك التي أنبتوها في عقولنا عنوة ليقتلعونا من جذورنا وقيمنا ومثلنا العليا، هي رأتهم وطرقت على رؤوسهم بحبرها لتنتزع منهم حقها في البقاء.

رقصٌ فوق الجليد ونارٌ جليدية، قصيدتان تذهبُ الشاعرة بهما بعيداً في رؤيتها للانزياح المغاير المتماهي مع انسيابية البوح المتحرّر من القيود المجتمعية، الانزلاق فوق الجليد عندها حرية متوخاة حدّقوا في الخطوات اللامرئية هكذا يتحوّل الجسد روحاً تائقة لبلوغ مداها الإنساني الحيوي المنصهر مع احتمالات كونية مُتاحة فقط للناظرين الى المكنون في سدرة المنتهى، من هنا يأتي عتابها لغاستون باشلار الذي لم يدرك – تعرّي النهارات المُفاجئ من المعنى – أو عندما تقول الشاعرة مخاطبة باشلار – ما لا تعرفه عن النار يا باشلار وهو الذي ابتدأ حياته الفلسفية مع التحليل النفسي للنار وهنا لا نستطيع الا أن نذكّر أنه يعتبر من أهم الفلاسفة الفرنسيين الذين تحدثوا عن الظواهر والظاهراتية فأصدر كتباً عدة عن العقل العلمي الجديد وتكوينه. هذا في الجزء الأول من حياته إلى أن أصبح الموضوع الرئيس عند باشلار، في الجزء الثاني من حياته، هو التخيّل أو عمل المخيلة، بعد أن كان العقل وأصبح يسعى إلى القيام بدراسة فلسفية شاملة للإبداع الشعري، واستسلم لدافع لا يُقاوَم للتواصل مع القوى التي تخلق المعرفة لا التي تُحَصِّـلها والمجال الوحيد الذي يأمل أن يرى فيه تلك القوى، وهي تعمل، هو الشعر لذلك كتب مجموعة كتب، في الجزء الثاني من حياته، طبق فيها منهجه هذا.

هذه بعض النماذج التي توحي الى أي مدى توغلت الشاعرة في بحثها عن اللحظات الإنسانية والكونية في آن، أكان في قصائد القبيلة أم جسدي يرى أو ورد مقدس، أو إينونيت، فكأنها تحاور المكبوت في الخلق والحياة، تتناسل في مواضع قصيّة، حيث ينبت السؤال من أمكنة غير متوقعة تماماً كالغضب الأنيق، أو كرحّالة لديه تصوّر مُسبق عمّا يجب ان تكونه الصور المُتخيلة في مُسافرتها البحثية لِتُعيد صياغة ما سقط زجراً من المفاهيم الرؤيوية، لغة الحياة عندها مُغايرة، تقصّيها للوجد يسلك الى حد بعيد مسالك وطرائق صوفية، أو انخراط مُلِحّ في استنباط النقاء من تعثر التائهين في سطحية وقشور الحياة، تلامس وجوه لحظاتها كأنما هي راقصة بالية والمسار جليد زَلِق يؤدي الى كثافة معرفية تُنشد تعميم دلالاتها بلغة شعرية شفافة فبالرغم من تنوّع وتعدّد عناوين قصائدها، يتبدّى بوضوح مسار شعري إنساني تجديدي متناسق يتماسك ببنائية دلالية نقدية تتصف بالغضب حيناً وبالسلاسة الهادفة أحياناً كثيرة ليتبلور بمداه الأخير كإضافة مهنية جديدة في المفهوم الشعري البحثي الفلسفي الذي استطاع أن يربط بين الفيزيك والميتافيزيك بجدلية لغوية متكاملة في الشكل والمضمون، تفكك ما سبقها وتؤسس لما سيأتي بعدها في مسارات نسرين كمال الشعرية.

مؤسس ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى