السياسة… الاحتيال والغرائز!

محمد ح. الحاج

واهم من يعتقد أنّ مراكز الأبحاث في عالم الغرب أهملت دراسة الماضي في العالم المتخلف، استطراداً، درست حروب داحس والغبراء، والبسوس، واستخلصت منها عناصر الإثارة لتوظيفها في خدمة مخططاتها، مع مجاراة التطور الزماني والمكاني… تحييد العقل، وإثارة مكامن الغريزة في المنطقة المستهدفة…. سياسة!

ينتقي مربّي الحمام طائراً متميّزاً، قويّ البنية فيدرّبه على الطيران ساعات طويلة، يرميه مرات بالشبكة فيترسّخ لديه بالتطبّع تجاوز عقدة الخوف من الشبكة، يطلقه إلى الفضاء لينضمّ إلى سرب ما، وبعد قليل يفرض قيادته على السرب المستهدف، ينتظر الصياد ليتأكد أنّ السرب ناله التعب، يلوح للطائر الصياد بأنثاه فيهبط، ويلحق به عدد من السرب الغريب، يطلق الصياد شبكته ليصطاد حمام غيره… توظيف للغريزة… احتيال.

صياد الحجل، يربّي طائراً منذ الصغر على الصياح، يضعه في قفص صغير له فتحة تسمح بظهور نصف الطائر من دون أن يتحرّر، يضعه في القفص على قمة رجم من الحجارة، يموّه القفص فلا يظهر ويترك فتحة ليظهر الطائر الصياد، ثم يختبئ في حفرة مموّهة ويطلق صفيراً لطائره فيبدأ بالصراخ… تكتشف طيور المنطقة الصوت الغريب، تسارع الذكور لمقاتلته وطرده، وتلحق بها إناثها، فتقع في شراك الصياد أو شبكته…! أيضاً استثمار للغريزة واحتيال عليها.

تعتقل الاستخبارات مطلوباً، قد يكون خطيراً، تكتشف أنه ذكي، تساومه، تغسل دماغه، تستثمره في كشف خفايا السجناء، وقد تطلقه ليكشف عصابة أو تنظيمات، لكنه استثمار وهذه سياسة أمنية لا دور فيها إلا لغريزة البقاء عند المجرم، واستثمار للعقل في الدوائر المختصة بما يخدم المصلحة العامة… أيضاً سياسة، فيها الكثير من الاحتيال.

في كثير من العالم المتخلف قطعان بشرية يمكن تحييد العقل فيها ببساطة عن طريق إثارة الغرائز، تتحكم الغريزة المستثارة بسلوك الفرد فلا يفكر بل يدع العقل جانباً ويندفع أشبه بالحيوان، إنه الأمر الواقع، عالمنا العربي ليس استثناء من هذا الفعل، فالأمية والجهل لها امتدادها، حتى في أوساط يعتبرها البعض متجاوزة حالة الأمية، تتحكم بها الميتافيزيقا التي تدفع بالعقل إلى الحياد ويعيش الفرد ضمن «تابو» يصعب الخروج منه… ولأنّ الأمم القوية تتوسل كلّ الأساليب لاستمرار هيمنتها على مقدرات وثروات الشعوب، فهي توظف نقاط ضعفنا لخدمة مصالحها معتمدة على مقترحات مراكز البحوث وتخطيط السياسات الخارجية… هو استثمار سياسي… احتيال!

الخلافة التي انتهت قبل قرن من الزمن، لم تكن مطروحة قبلاً على ساحة عالمنا الذي يحاول الخروج من نفق الجهالة والتخلف، الغرب لا يسمح بذلك إلا بمقدار ما لا يستطيع منعه، وإذ لم يعد هناك من عدو عالمي آخر لهذا الغرب بعد أن تحقق له شبه أحادية القطب والسيطرة التفت ليخلق عدواً جديداً! أوحت له مراكز الدراسات والبحوث بأنه سيكون الإسلام بما يتوفر فيه من أصوات نشاز لا تمت إلى الإسلام بصلة، هو أوجدها فكانت «القاعدة»، وهو أطلقها لتضرب أبراج التجارة فتوجد له المبرّر القانوني لإشهارها عدواً وملاحقتها تحت ستارة من التضليل! واحتلال دول أو إقامة مزيد من القواعد على أراضيها.

صناعة الحروب

إنّ أكثر من نصف صناعات الغرب هي عسكرية، وتوفر أكثر من نصف فرص العمل والأجور المرتفعة لشرائح من مواطني دوله، فإذا ما توقفت الحروب، وعمّ العدل والسلام على مساحة العالم، ستتوقف عجلة الصناعة الحربية، وتنعدم تجارة الأسلحة ويتأثر اقتصاد هذا الغرب الذي لن يسمح بذلك، من هنا نجد أنّ هناك مراكز أبحاث ومجموعات متخصصة بتوفير أسباب قيام الحروب على مساحة العالم، تستهلك أسلحتها وذخائرها وتستمرّ عجلة الصناعة ناشطة مع ما يترتب على ذلك من أرباح طائلة وزيادة في الدخل القومي والفردي، ولو جاء ذلك على حساب أنهار الدماء المسفوحة في كلّ مكان.

الحروب المباشرة شكلت لعالم الغرب ورطة كبيرة، وأزمة أخلاقية طالت مجتمعاته، فكان الانتقال إلى حروب الوكالة، وأشدّها شراسة الحروب الداخلية الأهلية ، إما صراع على السلطة، أو صراع مستحدث على قواعد لا أخلاقية تتحكم فيها الغرائز المستثارة بالميتافيزيقا على تعدد ألوانها وأشكالها، وقد أصبح للإله وكلاء على الأرض وأجبروه على الانخراط في مشاريعهم، هكذا يجري تحييد العقل تماماً فتنقلب المنطقة إلى غابة تسود فيها الوحشية وتنعدم الإنسانية… الغرب لا يبالي، بل يقف متفرّجاً منتشياً بروائح البارود والدماء والجيف المتفسخة… هي سياسة، بل هو استثمار احتيالي أبعد ما يكون عن الأخلاق… هو استثمار الغرائز.

على مدى سنوات طويلة في قلب غوانتانامو، وضمن مخابر الاستخبارات المركزية جرى إعداد الخليفة المنتظر، مراكز الدراسات استحضرت اسم الخليفة الأول «أبو بكر… لكنه البغدادي» تماشياً مع المكان، لم تتأخر في تهيئة وإعداد الكوادر المساعدة، والأموال، وانطلقت حملة الإعلام متدرّجة تغمز خوفاً من قيام الخلافة، وكانت حدود أنصارها في مراكز البحوث وبعض الخلايا النائمة… كانت مناسبة ليلتقط بعض القطيع وهج التسمية، توقف العقل وبدأ العمل بالغريزة طبقاً للمخطط، من صلب القاعدة بدأ الانطلاق سواء أعجب ذلك أميرها الزرقاوي أم لا!

انطلاقة دولة الخلافة بهذه القوة، بما توفر لها من تسليح سري، ودعم خارجي وتجنيد مرتزقة، والنجاحات التي حققتها في مناطق محدّدة، هي بالأصل تشكل البيئة المناسبة أو المهيأة للقبول، إما عن قناعة، أو بسبب التهديد، وفر لهذه الدولة سرعة الانتشار وسرعة الفعل، واكتساب الأنصار… البيعة حتى في أوساط خارج سيطرتها، الأردن ولبنان مثالاً… والحداء يعلو تمجيداً لأبي بكر البغدادي من اربد والزرقاء وشمال لبنان، بينما يقبع الخليفة في مأمن تتحاشى الاقتراب منه طائرات التحالف فلا توجه صواريخها إليه، وربما هو محاط بحواريه يشرب نخب التحالف مما تعتق في أقبية فرنسا أو أميركا، وبين الفينة والأخرى يتطلع إلى ساعته الفاخرة ليتذكر الوقت… رغم عدم أهميته، ففي الجنة اليوم كله نهار… لبن وخمر، وحور عين!

عالم متخلف لا يستحق أفضل من هكذا واقع، كلّ أجهزة العالم المتخلف حاربت العقل، وحاربت المفكرين والعقلاء، بل قتلت أصحاب مشاريع التنوير، وإذ لم تستطع القضاء على أفكارهم ومعتقداتهم تسرّبت إلى داخلها وعملت على تشويهها أو حرفها عن مسارها لتضيع في دهاليز الخوار الهدام، وليس الحوار البنّاء، صراع على المكاسب والمواقع، وتفريغ للشعارات من مضامينها، فلا الحرية تحققت، ولا الوحدة قامت – على العكس نعجز عن الحفاظ على الراهن وتتطور حالات الانقسام على قواعد أكثر سوءاً بل تتجه أغلب شعوب المنطقة إلى هاوية فقدان الإنسانية، والهبوط دون مستوى خط الفقر، رغم أنّ موارد المنطقة تفوق حاجة سكانها أضعافاً مضاعفة.. لكن هذه الموارد تذهب إلى صناديق احتكارات الصناعات العسكرية في الغرب… – صناعة الحروب… احتيال لإفراغ الجيوب.

غريزة البقاء التي تدفع بالقطيع إلى التجمّع في وضعية الدفاع عن النفس، بدأت تضمحلّ، رويداً رويداً، وبدأ الفرد يلوذ بعائلته، بعشيرته، الخلاص الفردي أصبح مطلباً… هي ثقافة غاية في الانحطاط… قد تؤثر، لكنها لن تعمّ، نتفاءل، إذ لا بدّ من صحوة.

أكثر من نصف قرن على «استقلال شكلي» لدول العالم العربي وما زال تصنيفها… عالم ثالث، متخلف، بينما انتقلت دول أقلّ مساحة، وأقلّ سكاناً، وأقلّ موارد وثروات إلى عالم العلم والمعرفة والتطور التكنولوجي، كنا نطعمها فأصبحت تصدر إلينا!

هل سألنا أنفسنا عن الأسباب؟ الماورائيات مرضنا… تغييب العقل، واستعداد قطعاننا لإثارة الغرائز… داؤنا… ما هو الدواء؟ برسم قادة الفكر والسياسة ومراكز البحوث إن كان في عالمنا مراكز بحوث حقيقية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى