ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.
وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.
كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.
إعداد: لبيب ناصيف
وُلدت في 2 تشرين الاول 1 من العام 1939 في الخنشارة حيث كانت العائلة اعتادت أن تصطاف. أذكر أن المنزل لشخص اسمه الأول، أو اسم عائلته، يزبك 2 ويقع في أول البلدة من ناحية بولونيا، وإلى كتف المنزل تلة وأشجار صنوبر. كنتُ الثاني بعد شقيقي البكر نجيب. بعد سنتين وُلدت شقيقتي هدى، وبعد ست سنوات شقيقي جورج.
العائلة متحدرة من آل الحلو، وهي فخذ من آل جنحو في المصيطبة، التي منها عائلات بطرس، قهوجي، ليلو، الخال، وردة، الحاج، شاغوري، سمعان، عيد، منصور وابو فضول.
يفيد المحامي الاستاذ عادل بطرس في مؤلفه القيّم «المصيطبة في البال» ان اصل عائلتيّ بطرس وناصيف يعود الى اسر «العناحلة» وهي مجموعة عائلات يرقى اصلها الى بلدة «عين حليا» الواقعة على احد سفوح سلسلة جبال لبنان الشرقية، قرب بلدتيّ الزبداني وسرغايا، وقد لقبوا «بـآل الحلو» لما كانوا يتمتعون به من جمال، حسب كتاب المحامي فريد ابو فاضل «اسر العناحلة ومراحل التاريخ اللبناني في 1930-1954». كان سكانها من الروم الارثوذكس والسريان، ويتكلمون السريانية. وحوالي 1430 نزح عنها احد اعيانها واسمه جمعة ابو نار مع اولاده الستة وابنته، وكانت على قدر كبير من الجمال. وذلك اثر نزاع حصل بينهم وبين حاكم المنطقة الذي اراد ان يقترن من الابنة عُنوة، وكانت تسمى «ست الكل»، وهو مختلف عنهم ديناً، وقد ادى ذلك الى مقتله. فما كان منهم الا ان نزحوا عن هذه المنطقة واتجهوا الى «جبّة بشري»، وما لبثوا ان انتقلت إليهم «المقدمية» ودامت بيدهم حوالي 150 سنة، ومن هناك انتقل بعضهم الى بلدة «مشتى» حيث سميت «مشتى الحلو»، وانتشر البعض الآخر الى سائر انحاء لبنان بما فيها حصرايل، وحاصبيا وراشيا، وقد جاء احدهم من حصرايل وهو جد عائلتيّ «جنحو» و»حبيب»، كما يقول «ابو فاضل»، واستوطن مزرعة العرب حوالي 1660 وانتشرت ذرية «جنحو» في المصيطبة، وذريّة «حبيب» في المزرعة.
الوالد: اسبر ابن الياس ابراهيم ناصيف، وهيلانة جريس بطرس، وهما انجبا:
ادما: بقيت عزباء
نجيب: اقترن من ماري شحادة شقيقة الدكتور حبيب، مالك القصر المعروف في منطقة «طلعة شحادة» شارع مار الياس . بعد ان توفيت زوجته، اقترن من لور بنايوت، انما لم يستمر معها اكثر من 50 يوماً بسبب سوء معاملتها لابنته ماري.
وماري خرّيجة جامعة السوربون في باريس. اقترنت من الرفيق ميشال صباغة، وانجبت جمانة وجورج مقيمان في باريس بعد زواج كل منهما .
اسبر: اقترن من والدتي ايلان جرجي جحا. توفي الوالد في 12 ايار 1956 والوالدة في 17 تشرين اول 1997.
انجب كلا من:
نجيب: صاحب محلات La Frange لاعمال البرادي. توفي في العام 1995
لبيب: الامين. اقترن من الامينة اخلاص نواف حردان.
هدى: بقيت عزباء
وجورج: الاعلامي المعروف. اقترن من الدكتورة نجاة نعيمة.
كان والدي، وشقيقه نجيب، يملكان معملاً لبلاط الموزاييك، هو من اوائل معامل البلاط في بيروت ان لم يكن الاول كما كانت افادتني الوالدة، وكان موقعه في منطقة الجميزة. لتاريخه ما زال العقار معملاً ومكتباً قائماً، وقد زرته منذ سنوات قليلة.
فرج الله: اقترن من مارغو جرجي ابراهيم ناصيف وانجب منها:
المرحوم ايلي، رجل اعمال. بقي عازباً
المرحومة ناديا. اقترنت من رجل الاعمال المرحوم جورج حايك.
المرحومة أفلين عُرفت باسم ايفيت ، خريجة الجامعة الاميركية وكانت استاذة ثانوية معروفة، في مادة الرياضيات.
كان عمي فرج الله اسس معملاً للبلاط في منطقة برج ابو حيدر الى جوار كنيسة ما الياس المصيطبة .
ملكة: اقترنت من جرجي يعقوب جحا، بعد وفاة عقيلته ادما اسعد جريس بطرس، وانجبت منه اندره المدير المالي في شركة «الكات» وعضو المجلس الملي الارثوذكسي ، ووداد رفول عرمان.
روز: بقيت عزباء. توفيت عام 1958
الوالدة: ايلان، ابنة جرجي جحا، اساساً من بلدة بشمزين، وكان يملك محلاً للاجواخ في سوق الطويلة، وادما اسعد جريس بطرس. كان اسعد انجب مجموعة ابناء من بينهم:
جرجي: والد الوزير فؤاد بطرس، وجبران: والد كميل، وألكسي مؤسس الاكاديمية اللبنانية Alba
شفيقه: عقيلة امين المتني، والد كل من: طبيب الاسنان كمال، وسلوى زوجة سليم الريّس، ووالدة الرفيق سمير عميد مالية واقتصاد، ورجل اعمال معروف ، الرفيق سهيل، الرفيق سعاد، سامي وسلام.
وماري جورج بومن.
انجب جرجي جحا من زوجته ادما اسعد بطرس كلا من:
يعقوب عُـرف باسم «جاك» وكان موظفاً متقدماً في مصلحة مياه بيروت
الوالدة ايلان، وانجال
بعد وفاة ادما، اقترن جرجي جحا من ملكة الياس ناصيف عمتي ، وانجب منها: اندريه ووداد.
اما المنزل فكان يقع في شارع «المصيطبة»، في المنطقة بين «مقهى يزبك» ومحل جرجي المعلوف، وعلى زاوية شارع المصيطبة مع شارع هو اقرب الى «زاروب» ، سميّ لاحقاً باسم «سليمان أبو عز الدين». الجيران كأهل وأكثر، كلهم أصدقاء الكل، لم اشهد يوماً على خلاف بين عائلة وأخرى، أو بين أفراد العائلة الواحدة. في مواجهتنا كانت تقع قطعة ارض خالية 3 كنا نلعب فيها مع صديقيّ الطفولة حبيب وكابي جنحو 4 ، وآخرين. تليها بناية بطرس قازان 5 الذي كان يقيم في الطابق الثاني منها، «فيما اقام» في الطابق الاول «المفتاح الانتخابي» وصاحب الحضور الشعبي حنا يزبك 6 ، حتى اذا انتقل الى دارة جميلة شيّدها الى جوار بناية رزق الله نوبر 7 حلّ مكانه شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز محمد ابو شقرا 8 فيما اقام في الطابق الارضي جبرايل اديب جنحو، ثم حلّ مكانه الصديق نقولا حداد.
الى جوارنا تقع منازل متري برباري 9 ، جرجي مجدلاني 10 ، انطون نعمة 11 ، اميل برمانا 12 ، وفي الشارع الزاروب، عائلات: ايليا لوقا، اندراوس ونخلة باسيلا 13 ، الاب ايليا برباري، ابراهيم قازان، جوزف مجدلاني 14 ، اميل ليلو، كابي قدسي، انطون وجان الزير، نبيهة الحاج، ويقع ايضاً نادي «سنحريب».
الى تلك العائلات، كانت تشدنا أواصر من القربى والصداقة. لم يخطئ من قال: «الجار للجار»، ولا ذاك الذي قال، «الجار قبل الدار»، أو القول الآخر «جارك القريب ولا خيّك البعيد» ذلك أننا كنا عائلة واحدة ولم نفترق لولا تلك الحرب المجنونة التي أبعدت الأخ عن أخيه والجار عن جاره والأهل فيما بينهم، وجعلت أصحاب العقارات يبيعون وينتقلون خارج بيروت، ومثلهم بعنا، إنما انتقلنا الى أمكنة اخرى في المصيطبة ولم نذهب إلى حيث فعل الآخرون.
رائعة كانت المصيطبة. كنتُ أراها «قرية» ضمن مدينة، لما تميّز به أهلها من علاقات جيدة، ومن أواصر المحبة. يكفي أن يكون احدهم من أبناء الحي كي تشعر نحوه بانشداد، وترتاح إليه.
ومع أنهم انتقلوا، إلا انهم ما زالوا يترددون إلى حيّهم في كل مناسبة ، فنلتقي ونرى في وجوههم غصة ألم وكثيراً من الحزن. لو أوتي لهم أن يعودوا لفعلوا .
في العام 2013 خسرنا، اقولها بلغة الجمع لاننا كنا عائلة واحدة، احد الادمغة النادرة، نقولا نصري ابو رزق.
رافقته طفلاً، فصبياً، فطالباً ثانوياً، ثم جامعياً. ولا مرة الا وكان مجلّياً بذكائه، بتفوقه، بأخلاقه. عَـرَفَـته «المدرسة المعمدانية» طالباً مميّزاً، وعرفته الجامعة الاميركية من بين ابرز اللامعين من طلابها، حتى اذا تخرّج، منحته احدى ابرز جامعات الولايات المتحدة منحة كاملة، متخصصاً في الطب والابحاث، محققاً نجاحاً وراء نجاح.
عندما كنا نزور العم نصري ابو رزق ويجلس معنا المميّز نقولا، كان يحدثني عن قراءاته لسعاده. عن علاقته الوطيدة بزميله الرفيق الدكتور حالياً سليم مجاعص وعن انجذابه الى عقيدة الحزب.
ويصاب بداء اقعده جسداً وعقلاً. لم يقدر والده على احتمال فجيعته بإبنه، فرحل باكراً. ورحلت والدته، هي التي «تعبد» نيقولا كما كانت تحب ان تناديه-، وترى فيه النبوغ والطيبة ورفعة الاخلاق.
كان شقيقه المهندس نديم كان عضواً ونائباً لرئيس بلدية بيروت يتفقده كل 6 اشهر.
أفادني يوماً عن شقيقه نقولا:
بقي منه 35 كيلو .
وسألته، عرفك ؟
ابداً.
ورحل نقولا، الدكتور، النابغة. الراقي. المُحب. وكنا، اهلاً وجيراناً واحباء واصدقاء وزملاء دراسة، في كاتدرائية مار نقولا في الاشرفية. الحشد كبير. الدموع كثيرة، تهطل وهي تستمع الى كلمة شقيقه المهندس نديم. فقد كانت قطعة من القلب، فيها صدق وشفافية وحزن، والكثير من الوفاء على من كان قمة في كل شيء.
نقولا ابو رزق ينضم الى والديه نصري، وسلوى نخله باسيلا، اندراوس باسيلا وعقيلته لور، ولاحقاً اصهرته كابي حداد، خليل جهشان وإميل ابو رزق الرفيق وسامي كرم، الى الاب ايليا برباري وعقيلته ماري ناصيف، الى ايليا لوقا وعقيلته، الى ابراهيم وفكتوريا قازان، الى اميلي مجدلاني، وابنها جورج، الى متري وكميل ومينرفا وسامي برباري، الى شقيق «تانت مينرفا»، فؤاد خوري وزوجته باكيتا، الى كل الزاروب الاوتوستراد بنظرنا الفوّاح بالكثير من قيم والفة ومحبة، ليستقر معهم في اعماق الذاكرة، ويستمر معنا.
تقصّدت ايراد التفاصيل فتبقى لذاكرة مديرية الحزب، ولابناء «المصيطبة».
وربيتُ في منزل لم يعرف الطائفية ولا سمعتُ أحداً فيه يتناول طائفة أخرى. للوالد صداقات عديدة في «المصيطبة الفوقا» ومع عائلات مختلفة. كلهم «خلقة الله» تردد الوالدة، والإنسان بأعماله. لذلك كان طبيعياً جداً أن تكون لدي صداقات كثيرة مع «مسلمين» وأن يكون أكثرهم قرباً ومودة، أنور نعماني الذي كان رفيق الطفولة في الـ Lyc e، والصديق الأحب. مات وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره. حتى اللحظة أذكره بلوعة.
سنوات الطفولة أمضيتها في مدرسة الست لويزا بحمدوني» في المصيطبة، تلك المربية الفاضلة التي درس على يدها معظم أولاد الحي. ثم في المدرسة العلمانية للبنات Lyc e، في كركول الدروز، ففي مدرسة «الثلاثة أقمار» عندما كان مديرها الاشمندريت آنذاك، اغناطيوس هزيم بطريرك انطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس وبعدها في المدرسة العلمانية للصبيان Lyc e في منطقة الناصرة حيث زاملتُ في الصفوف التكميلية ممثليّ المسرح المعروفين: أندرة جدعون، وريمون جبارة، والمذيعة نهى الخطيب، وكان معنا الكاتب اليهودي الذي رحتُ أقرأ له لاحقاً في الصفحة الاولى من جريدة Le Monde، أندره بركوف .
افتتاح مدرسة مار الياس بطينا في العام 1954 الذي تولى تأسيسها وإدارتها المربي حليم نهرا ، قبل أن ينتقل إلى الكهنوت باسم الاشمندريت تريفن ، جعل والدتي تنقلني إلى مار الياس بطينا. أذكر بحنين وتقدير الأساتذة الأوائل: الياس سميره، إيلي شامي، الشماس جبران رملاوي 15 ، الذي وافته المنية في استراليا وقد سيّم فيها مطراناً، وديع خوري، الياس عازار، الشاعر جورج شكور، متري وهبة، جورج نصار، جورج كافللي. ومن زملاء الصف ريمون سميرة، خليل بطشون صاحب السوبر ماركت، سابقاً، في رأس بيروت ، ريمون حريق، سعد ابن نقولا مجدلاني مختار المزرعة الذي عُرف بإسم «ابو سعد» ، باسيل باسيل الرفيق لاحقاً منى ديب، جوزف خليل، بهيج حمزة .
لقد خرّجت مدرسة مار الياس بطينا نخبة من الذين تولوا في الحياة مناصب ومراكز في مختلف الميادين، من أبناء المصيطبة ومن خارجها، وإني لا أذكرهم جميعهم كي لا أقع في خطأ النسيان للبعض من المستحقين منهم.
في تلك الفترة تعرّفتُ على الرفيق هنري حاماتي، وكان يقطن الى جوار مدرسة مار الياس بطينا، وعلى تواصل جيّد مع أساتذة فيها. كان أيضاً يعطي دروساً خصوصية لعدد من الطلاب، وبواسطة البعض منهم، وغيرهم، أقام حضوراً جيداً في المصيطبة وساهم بفعالية في نموّ العمل الحزبي فيها. الكثيرون من أبنائها ما زالوا يذكرون ذلك.
تميّز الرفيق هنري بسوية فكرية متقدمة وبذكاء حاد وبثقافة شاملة أدهشت كل من تعاطى معه من أساتذة وطلاب. فهو، وإن لم يلتحق بجامعة، إنما كانت ثقافته تضاهي الطلاب في سنتهم الأخيرة ، وفي مختلف الاختصاصات، كأنه جامعة بحد ذاته .
للرفيق هنري الفضل الكبير بالنسبة لي، حزبياً، وقد رافقته منذ بدايات عملي الحزبي واستمر كذلك في الستينات عندما تولى مسؤولية مفوض لبنان وكنتُ إلى جانبه ناموساً، خازناً ومسؤولاً عن بيروت.
بعد ذلك افترقنا. إلا أني لا أستطيع إلا أن أقرّ له بما يتميّز به من كفاءات يا ليتها صبّت كلها داخل الأقنية الحزبية، لكانت أينعت الكثير .
بعد إنهاء دراستي في مدرسة «مار الياس بطينا»، شاركتُ في تأسيس «رابطة قدماء» طلاب المدرسة، وكنت مع الصديقين توفيق بيطار 16 وسمير عبد الملك المتقدمين للحصول على رخصة من وزارة الداخلية، ومن ثم توليتُ رئاسة «اللجنة الثقافية» التي كان من أعضائها الدكتور المعروف غسان معلوف، الدكتور جورج مرشد صليبا مجدلاني، الشقيق الاكبر للنائب السابق الدكتور عاطف مجدلاني ، الأستاذ إيلي مجدلاني، السيدة فريدي شامات أيوب، الأستاذ خليل سميرة. من أعمال اللجنة إصدار نشرة «الحصاد» التي توليتُ رئاسة تحريرها، وكان استاذ العربية الشاعر الياس عازار مشرفاً عليها من قبل إدارة المدرسة، وإقامة ندوة حول «الزواج المدني» في قاعة «الندوة اللبنانية» في شارع بشارة الخوري، شارك فيها كل من المطران جورج خضر، الشيخ صبحي الصالح، المحامي عبدالله لحود والنائب أنور الخطيب، وأدارها المحامي فوزي غازي. لقد امتلأت القاعة على وسعها بالحضور، جلوساً ووقوفاً، وأصدرنا لاحقاً كتيباً احتوى على الكلمات، وصوراً للمتكلمين وللحشد الذي قلّما شهدته قاعة «الندوة اللبنانية».
أول من تولى رئاسة الرابطة، الصديق توفيق بيطار، وبعده الصديق الآخر جوزف عبد الأحد مدير التنظيم المدني لاحقاً .
في تلك الآونة، توفي الوالد عام 1956 بعد سنوات من المرض الذي كان أقعده في البيت، وكان وضعنا المالي قد تراجع كثيراً، فاضطررتُ إلى أن أشارك شقيقي الأكبر نجيب في تحمل مسؤولية العائلة، إلى جانب استمراره، واستمراري في الدراسة، فعملتُ تباعاً في كل من «شركة شارل كيلر للمصاعد» بسعي من ابن خال الوالدة، الوزير فؤاد بطرس، «بورصة بيروت» بسعي من قريبي ومن صديق الطفولة، والمستمر، المحامي عادل بطرس. «بنك جوزف اللاتي وأولاده» ثم إلى «بنكو دي روما» بفضل أحد مدرائها، صديق صهري الرفيق ميشال صباغة، ميشال فغالي .
ودرستُ المحاسبة في كل من معهد Pigier، والمعهد البلجيكي Centre Belge، في منطقة «الناصرة»، ثم تابعتُ، بعد ان انتقلتُ الى بنكو دي روما ولمدة سنة كاملة، مادة «دراسات مصرفية» Etudes Bancaires في الجامعة اليسوعية، فدراسة مادة إدارة المؤسسات Gestion des Entreprises لمدة سنتين.
لا أنسى وقد أمضيتُ في بنكو دي روما سبع سنوات، نخبة من الأصدقاء الذين أذكرهم دائماً بحنين ومحبة: جوزف قاعي، محمد عبده، فرنسوا شقرا، سمير أبو مرشد، ماري – جوزي جيهامي، تريز حداد شقيقة الرفيق لويس حداد الذي خسرناه مؤخراً ، إيلي شلهوب، أنطون عيراني، أحمد سنو، نديم بعلبكي، سامي الخازن، حاتم أبو سعيد، إيفيت خوري، ماريز شوشاني، نوال حاتم، أنطوان صفير، ميرزا ميرزا، مي متى، فؤاد ثابت، جان فياض، فؤاد جوجو، فاهي كشيشيان، سامي نحاس ومحمد فتوح .
اثنتان حفرتا في صغري ومطلع شبابي حنيناً، استمر: عمتي روز 17 ، الأصغر بين الأعمام والعمات، البشوشة، المشعّة بالحياة والنكتة والضحكة المجلجلة التي كانت تصل إلى حارات أخرى في الحي، والتي كانت نجمة السهرات واللقاءات والصبحيات، تروي النكتة، تضحك لها وتُضحك، فيعرف الحي أن روز ما زالت ساهرة في عائلة اعتادت السهر الطويل، والنوم الطويل .
أما «عمتي» الثانية التي لم تكن عمة لي، فهي مريم المر، أذكرها اليوم، كما دائماً، بتقدير وبحب وبكثير من الوفاء. كانت استقرّت في العائلة بعد أن طلّق عمي نجيب زوجته الثانية «لور بنايوت، بعد ان كان خسر عقيلته ماري شحادة، كي تعتني بابنته الطفلة ماري، وتكون مربية لها ومدبرة للمنزل. كانت طفلة في الخامسة عندما خسرت ماري والدها نجيب، فانتقلت ومربيتها مريم المر إلى منزل الوالد، إلى جانب عمتيّ أدما وروز .
عندما ولدتُ كانت مريم في المنزل، كعمتيّ، وابنة عمي ماري. إنما لم تعد خادمة، ولا مربية ولا مدبرة منزل، باتت ركناً في المنزل وواحدة من العائلة.
تعاطت معنا كأبناء لها، وتعاطينا معها كأحلى ما تكون العمة، وأكثر. كانت تشاطرنا دروسنا وتحلّ لنا أصعب المسائل الحسابية. وُهبت ذكاء نادراً وقدرة عجائبية على حل المسائل الحسابية حتى لطلاب الصفوف الثانوية. كانت تتمتع بالطيبة والكثير من الأنفة وعزة النفس والكِـبَـر. ظروف العيش جعلتها تهبط إلى بيروت كي تجد ملجأً أميناً لها، إنما لم تجعلها تهبط إلى مهاو أو إلى عادات وتقاليد ليست لها ولم تنشأ عليها.
عندما وصلني خبر وفاتها، كنت في البرازيل في بدايات الحرب المجنونة. بكيتها كما لم أبك أحداً في حياتي، وكتبتُ لها قطعة طلعت من القلب، نشرتها في جريدة «الأنباء» التي كان يصدرها الأمين نواف حردان في سان باولو، ثم نشرتها في «البناء» بعد عودتي الى الوطن،
حتى اللحظة، وكلما مررتُ ببلدة الخنشارة حيث وُلدت، أو قرأت عن بتغرين أو مررت بها، أو كلما لاح اسم لأحد من آل المر، استعدت الى ذاكرتي «مريم» بكل ما تمتعت به من أصالة ابنة بلادنا، وشعرتُ بغصة حنين، وصليتُ لها في أعماقي مع أني لا أحسن الصلاة .
وما دمتُ أتكلم عن مرحلة الطفولة لا يفوتني أن أذكر بحنين أيضاً تلك السنوات العشر، ويزيد، التي جعلتنا نصطاف في منزل العم فؤاد نصار في سوق الغرب. فإن كنت ولدتُ في الخنشارة وأمضيت فيها سنوات الطفولة الأولى، إلا أنها لم تحفر في نفسي تلك الذكريات الرائعة كالتي أشعر بها إزاء سوق الغرب، فالطفل بات صبياً يلعب وينط ويجمع الشوك والبلان، ويرافق أترابه إلى الصيد ولعب الكرة، ورمي «الجريد».
لم يكن فؤاد نصار جاراً نصطاف في ملكه. كان عماً لنا، ونحن كأبنائه. زوجته لم تكن «أم ميشال»، إنما هي «التانت نجلا»، ندخل منزلها كأنه منزلنا، ونتناول العصرونية والتفاحة وعنقود العنب، وهكذا أولادها: ميشال، كابي، مي وكميل. كبروا، وكبرنا واستمر الحنين والشوق وان انقطع الاتصال بحكم ظروف الحرب الطويلة، وسفر ميشال الدكتور وكابي رجل الأعمال إلى الولايات المتحدة، وزواج مي إلى السيد جابر مجاعص في ضهور الشوير. أما كميل، الطفل آنذاك، فقد أصبح عميداً لكلية الطب في جامعة البلمند.
ما شعرنا يوماً أننا نصطاف عند غرباء بقدر ما كنا نشعر، إذ نبارح بيروت، أننا نقصد «بيتنا الآخر». هم عندنا، ونحن عندهم. وأحبَهم الوالد، كما أحب سوق الغرب، فرغب أن يعمّر إلى جوارهم ويستقرّ. اشترى الأرض، ورسم له المهندس فيلا حلوة، وقال هيا. إلا أن الداء أقعده وضاع الحلم، والأرض، وأراض أخرى كثيرة.
في تلك البنايات الثلاث إلى جوار «أوتيل سرسق»، شيّد الأشقاء فؤاد، وديع، وتوفيق نصار بناية لكل منهم.
وكما «عمو فؤاد وتانت نجلا»، كان شقيقه وديع أيضاً، «عمو وديع وتانت سعدى» وأبناؤهما أشقاء وأخوات.
لم تكن الوالدة تسأل أين نحن. لأن الجواب واحد. عند أولاد نصار. ربما أولاد فؤاد. ربما أولاد وديع. ربما الاثنين معاً. فالفسحة بين البنايتين كافية، وإلا فإلى الملعب حيث شُيدت لاحقاً مدرسة سوق الغرب، وحالياً فرع لجامعة البلمند، وإلا أيضاً باتجاه كيفون أو شملان أو عيتات. أما إذا غدونا صباحاً باكراً فإلى الغابون يصطاد بعضنا العصافير والبعض يرافق.
عندما بات ممكناً الوصول إلى سوق الغرب بعد سنوات الحرب المجنونة، توجهتُ إليها مع الوالدة. وقفنا على السطيحة امام المنزل الذي كنا نصطاف فيه سنوياً. صعدنا إلى المنزل الذي انتقل ليقيم فيه فؤاد نصار وعقيلته. عبطات على مدى الأيدي والشوق الكبير، وجلسنا نحكي. العم فؤاد يدمع، والوالدة تستذكر السنوات الحلوة و»تانت نجلا» تذكّرهما بما قد نسياه .
كنا كأننا نودع المرأة الفاضلة، المحبة، الطيبة، نجلا مرهج زوجة فؤاد نصار. فلقد فارقت الحياة بعد فترة، وقبلها كانت فارقت والدتي. عندما انحنيتُ أقبل العم فؤاد، غمرني باكياً وعدّد لي مَـن فارق الحياة من أحباء. بكى اسبر وايلان كما بكى نجلا .
يبقى فؤاد نصار، زوجته نجلا وأولادهما ميشال وكابي ومي وكميل، كما وديع نصار وزوجته سعدى وأولادهما رشيد 18 وميلاد ويولا وانيس النائب حالياً والمرحوم سامي في أحلى فسحات القلب 19 .
لو أعطي للإنسان أن يعود، ولو ليوم واحد إلى أيام رحلت، لاخترتُ أن أقضي يومي هذا في بيت نصار، ولا أشبع.
هوامش:
1 – في بطاقة الهوية: 08/11/1939، اذ تمّ اصدارها بعد ان كانت العائلة عادت الى بيروت بعد انتهاء اشهر الصيف.
2 – هو يزبك سماحة كما افادني لاحقا الامين الدكتور جورج رياشي، المسؤول الحزبي في بلغاريا والناشط فيها.
3 – فوق تلك البقعة من الارض، أقام العم نقولا نجم والد النائب نزيه، والاحباء نجاح، الراحل نبيل، رجل الاعمال نديم، الراحل فيليب، والمهندس ايلي وشريكه اميل حبيب معملاً لحجارة البناء، تطور الى معمل للبلاط. انضم إليهما لاحقاً العم ايليا لوقا.
4 – حبيب وكابي جنحو: ابنا المرحوم جبرايل اديب جنحو. كانت المنيّة وافت الصديق كابي منذ سنوات قليلة، وكان عمل لسنوات مديراً في فندق بوريفاج ، وفي سنواته الاخيرة مساعداً للمختار الصديق غسان مجدلاني.
5 – بطرس قازان: صاحب المؤسسة المعروفة بإسمه عرق قازان وكان عمل فيها الرفيق باسيل باسيل ثم غادر الى الولايات المتحدة وكيلاً لمصنوعاتها. والرفيق باسيل كان من زملاء الصف في مدرسة مار الياس بطينا، نشط حزبياً في ستينات القرن الماضي ويعرفه الرفقاء الذين تحركوا حزبياً في تلك الفترة. من اصدقائه المقرّبين الرفيق سمير حجار الذي كان استقرّ في الاشرفية مع شقيقه سيمون وشقيقتيه سعاد وصوفي، ومثله نشطوا حزبياً. اساساً من بلدة مشغرة .
6 – حنا يزبك: كان يعتبر من قبضايات بيروت. مثيله في الاشرفية الحاج نقولا مراد. كان يدير طاولة قمار وحوله عدد من المرافقين والمساعدين. ابنه ميشال كان صديقاً للحزب، وقد حضر أكثر من مناسبة حزبية.
7 – رزق الله نوبر: والد الصديق الراحل كمال، وتاجر المجوهرات المعروف ايلي الذي اقترن من السيدة فاديا منصور عازار.
8 – الشيخ محمد ابو شقرا: عرفتُ من ابنائه الكاتب العدل سليمان، والصديق مفيد.
9 – متري برباري: من رجال الاعمال مع شقيقه كميل. كانت تشدنا إليه، والى عقيلته تانت مينرفا علاقات وطيدة، امتدت الى الفاضلة شقيقتها ايفا عقيلة الدكتور كريم عزقول ، وطبعاً الى ابنائهما جورج، سامي الذي خسرناه منذ مدة، وأمل..
10 – جرجي مجدلاني: والد الراحلين حليم، ايلي وميشال، وجد المختار غسان مجدلاني.
11 – انطون نعمة: من دير القمر والد الاديب ميشال نعمة، مؤسس حلقة الثريا ، والملاكم فؤاد.
12 – اميل برمانا: والد الناشط سياسياً واجتماعياً الصديق خليل برمانا.
13 – اندراوس: كانت تربط عائلتنا إليه، الى عقيلته الفاضلة لور، والى كل اولاده، جورج، سامية كابي حداد ، ناديا سامي كرم ، صونيا خليل جهشان وهند الرفيق اميل ابو رزق علاقة وطيدة، ومحبة ما زالت مستمرة مع الابناء.
نخلة: بعد وفاته وعقيلته، انتقل الصديق نصري ابو رزق للاقامة في المنزل وكان اقترن من الابنة الوحيدة: سلوى.
14 – جوزف مجدلاني: والد الرفيقين د. غندور وعادل، الصديق ايلي، المرحوم جورج، نهى جورج حداد، وادال سمير حنا المدير في بنك عوده .
15 – جبران رملاوي: انتمى الى الحزب في فنزويلا. نشرتُ نبذة عنه، للاطلاع الدخول الى قسم من تاريخنا على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
16 – توفيق متري بيطار: صاحب العقار في منطقة المصيطبة، قرب فرن الحطب ، حيث اقام الوزير كمال جنبلاط عام 1958، ثم ابنه الوزير وليد الى ان انتقل الى قصره في منطقة كليمنصو. كان يتمتع بالرقي، سلوكية وتعاطياً. محترم من أهالي المصيطبة وكان الوزير وليد يكنّ له مودة لافتة.
17 – العمة الاخرى، الاكبر سناً كانت ادما. عرفتُها في آخر سنتين من عمرها. تعهدّت وشقيقتها روز السهر على ماري، ابنة شقيقهما الراحل نجيب.
18 – رشيد نصار: كان رفيق الطفولة، وبقينا نتواصل الى ان غادر الى مدينة الباسو Elpaso في الولايات المتحدة حيث كان لنا مفوضية، ومنها الرفيق الصديق الراحل جهاد عبد الخالق الذي صُدف ان عائلته كانت تقطن شتاءً في المنزل الذي كنا نقطنه صيفاً، وكان بالتالي صديقاً مشتركاً مع رشيد نصار. اقام الصديق رشيد حضوراً لافتاً في الباسو ، وهو اديب وشاعر، الى كونه رجل اعمال ناجح.
19 – سامي نصار: احببته كثيراً وهو طفل. خسرناه في اولى سني شبابه اثناء الحرب المجنونة