لزوم السترات الصفراء في لبنان

د. رائد المصري

بهدوء… فالكلّ بات يعرف أنّ استمرارية الحكم في لبنان على هذه الشاكلة صار ضرباً من الجنون سواء لجهة المدّة الزمنية المفتوحة والممنوحة للرئيس المكلّف تشكيل الحكومة، أو لجهة علاقته برئيس الجمهورية ومراسيم التواقيع والإحالة الى مجلس النواب، إضافة الى عمليات التخريب المذهبية والطائفية التي انتشرت بعد انتهاء الحرب الأهلية والولوج الى اتفاق الطائف الذي أسقط إسقاطاً وعلى عجل من فوق رؤوس اللبنانيين نتيجة التدهور الدولي المتسارع حينها بعد سقوط جدار برلين، وضيق الفرصة السانحة لتبلور وإنتاج نظام سياسي وطني ذي حكم علماني مدني ديمقراطي بعيداً عن الهيمنة الاحتكارية لأدوات البنك الدولي، والذين أمعنوا في تكريس الاصطفافات العمودية بين اللبنانيين وتظهير الخصوصيات الذاتية في الدّين والعرق والطائفة والمذهب، وربطها بالمتروبول المالي الدولي القائم على التفرّد والأحادية وتعميم الاحتكار والمضاربات ومعها ثقافة الفساد والتهرّب الضريبي الذي أصاب الدول والشعوب الفقيرة وطبقاتها المتوسّطة في مقتل… إنها الحالة الأمثل لإحداث تغيير بنيوي في أساس النظام السياسي اللبناني وفي العقد الاجتماعي في ظلّ نظام عالمي جديد يتشكّل ومعه تتشكّل بنى المجتمع والدولة تبعد فيه تسلّط أدوات البنك الدولي وهراواته المطوّعة لحركة الشعوب المعدمة في إنتاجها، وبفرضها للضرائب العالية من جيوبهم وإمعانها في القيام بمضاربات مالية وخلق الاقتصادات الوهمية وزيادة البطالة وعولمة الهجرة خدمة للرأسمال المتوحّش.. فها هي فرنسا ونخب حكّامها تخضع وتنصاع لإعادة تصويب العلاقة بين الحكّام والرعايا وفيها الكثير من أوجه التشابه مع لبنان، باستثناء بنية النظام العلماني المدني وسيادة القانون منذ ثورة سقوط الباستيل عام 1789…

لا نعيش في لبنان في ظلّ حكم ديني فحسب، بل في أقفاص مذهبية وطائفية يستحيل الخروج من شرنقتها إلا بإحداث صدمات قوية على الطريقة الفرنسية من دون الاتّكاء على مفاعيل اتفاق الطائف، والذي لم يتمّ العمل أصلاً بكلّ مندرجاته، وها هي المادة 95 من دستوره المتعلّقة بضرورة تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية لا زالت متكلّسة وصدئة ولم يتمّ المسّ بها مطلقاً، رغم تعاقب العديد من رؤساء الجمهورية منذ عام 1989 إلى اليوم، وهو ما يعدّ خرقاً فاضحاً للدستور، واستمراراً للسّير على خطى هذا الوليد المشوّه الذي أتى بعد زواج متأخر فتأصّلت به حالات المرض المزمنة ولم تعد تنفع معه الجراحة ولا العلاج ولا الصدمات الكهربائية، لأنّه دخل حالة الكوما، بل ضرورة إنتاج عقد اجتماعي متوافق بين اللبنانيين بأسس علمانية مدنية تعلو به سيادة القانون على الجميع، ومنه تتقلّص مساحات الفساد والسرقة والتهرّب الضريبي، وكفّ يد تسلّط أصحاب المصارف ونزع الامتيازات التي منحتها لهم الطبقة السياسية منذ عام 1992، وإعادة تغليب منطق الدولة في مشروعاتها الاقتصادية وفي إعطاء الضمانات الاجتماعية للطبقات الفقيرة والتي تمّ نحرها باسم تقديس العولمة والخصخصة وتعميم شراكات الفساد بين أبناء هذه الطبقات الناهبة للمال العام المؤدّية لدور السّمسار الدائم للخارج في كيفية استباحة الاقتصاد وتهريب رؤوس الأموال وإعفائها من أيّ ضريبة تترتّب عليها…

لا شيء يمنع في لبنان من تبنّي السترات الصفراء الفرنسية لكونها الفرصة التاريخية لهذا البلد ولشعبه المعذّب، سواء لناحية إعادة بناء نظام سياسي حديث، أو لجهة القيام بالإصلاحات الاقتصادية والمالية عبر إعادة المال العام الذي نهبه السماسرة في علاقاتهم الكولونيالية مع البنك الدولي وأدواته المتنقّلة بحرية تامة عبر الحدود، في الوقت الذي يشهد فيه العالم مخاض ولادة نظام جديد يمكن أن نبني عليه في لبنان توافقات سياسية وترتيبات اقتصادية ومالية، فالقضية ليست صلاحيات رئيس حكومة مع رئيس للبلاد أو تعطل التشكيل، إنها أزمة نظام وهي أزمة بنيوية صعب إصلاحها من دون أن تختمر وتنضج، وهي الفرصة المناسبة اليوم بعد أن خاض اللبنانيون تجارب عديدة تعذّر معهم الولوج الى أيّ تغييرات حيث القبضة الاحتكارية المالية كانت قوية ومنظّمة وممأسسة ويصعب التفلّت منها، أما اليوم فلا بديل من التغيير الحتمي، لأنّ الأزمة هي بالأساس صارت في بنية الرأسمال المتوحّش وعولمته المتفلّتة التي تدور في حلقات مفرغة وتنتج أزمات اجتماعية متكرّرة، بما صار يهدّد كيانات الدول أو المؤسسات السياسية والاقتصادية التي ابتكرتها عقولهم سابقاً…

دعونا نتجرّأ مرة واحدة ونقولها بصريح العبارة، في لبنان لا يستوي أيّ حكم فيه إلاّ بتفعيل المساواة وإقامة السيادة أمام القانون وعلى الجميع بالميزان نفسها، وهو ما يضع خصوصيات الطوائف والمذاهب بعيداً عن تأثيراتها في نظام الفصل العنصري الحديث «الأبارتهايد» ويحفظ وجودها الديني والديني فقط، دعونا نستفد من تجارب الآخرين في الغرب وأن نطوي صفحة أساليب التعبير العنفية التي تستقوي بالمذاهب والطوائف والدّين على الآخر في الوطن، وعند كلّ مفترق سياسي ترتفع بوجهه بطاقات الهوية وفحوصات الـ DNA في النّسب السياسي والوطني والطوائفي، أخرجونا من هذا السجن النفق قبل أن نعدم أنفسنا جماعات. فهي الحالة الهستيرية التي يعيشها المجتمع وتتعذّر معه مراجعة الحساب والاعتراف بالخطأ وتعزيز المكابرة الفارغة… ألم يسأل أحد منكم لماذا لا يسقط هؤلاء الحكام والنّخب السياسية في العالم وفي لبنان حتى لو خرج الملايين الى الشوارع والساحات..؟ فالسبب بسيط وهو أنّ هؤلاء مجرّد موظّفين في المتروبول المالي العالمي والمنفّذين لسياساته الدولية حتى ولو جاؤوا بالصيغة الديمقراطية وحسن التعبير عن الرأي، لكن بطريقة مشوّهة عبر ربطهم برأسمال المصالح التي تديرها مدرسة البنك الدولي التي تفرّخ كلّ عام المئات منهم ومن نخبهم، حيث ماكرون كان أحدهم آتياً من هذه المدرسة، وهو الى الآن لا زال يصرّ على عدم الحوار أو التسوية، لكنه عمل فقط على وقف مفعول قرار فرض الضرائب العالية لمدة ستة أشهر. وهذا واقع لن يسير به أصحاب السترات الصفراء بالطبع، لكون الأزمة أصبحت تتجاوز حالة هذه المطالب بكثير.

لن يكون لبنان بمنأى عن المتغيّرات الدولية الحاصلة وصار لزاماً اقتباس مطالب أصحاب السترات الصفراء السلميين المدافعين عن شروط بقائهم، وهذا بالضبط ما لم يلتقطه الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة بعد وبأنّ شروط السير فيها كان سابقاً أسهل، لا سيّما أنه هو من وضع نفسه في هذا السّجن الحديدي، بحيث أنّ مجرّد قبوله بتمثيل أحد نواب اللقاء التشاوري في الحكومة يعني عملياً تقطيع السلسلة في الحلقة المذهبية التي حكموا بها لبنان عقوداً من دون أن يتجرّأ أحد على النقد السياسي، فدعونا نبدأ من هنا، لأنّ رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى