ما عدا ممّا بدا؟

ثائر أحمد إبراهيم

قبيل تجلي إرادة الناخبين الحقيقية بكلمة فصل أعلنت اسم القادم للتربّع فوق عرش العنترية الأكثر جنوناً عبر تاريخ البشرية، الولايات المتحدة الأميركية في تشرين الثاني من العام 2012، كان الديمقراطيون وعلى رأسهم باراك اوباما قد صادقوا على برنامجهم السياسي المعلن عنه في مؤتمرهم المنعقد في شهر أيلول من العام ذاته، والمغاير في أولوياته لأولويات الجمهوريين ومرشحهم ميت رومني، والتي تمّت المصادقة عليها مع مجمل برنامجهم السياسي المعلن عنه وقت انعقاد مؤتمرهم الحزبي في آب من العام ذاته.

برنامجان سياسيان للحزبين الأقدر في الساحة الأميركية كانا كفيلين بشكل لا يقبل النزاع على بإسقاط الجمهوري ميت رومني من حسابات الناخب الأميركي ليودع ثقته عند الديمقراطي جداً باراك اوباما.

الناخب الأميركي القلق على رفاهيته ووضعه الاقتصادي وحريته المزعومة لم تقنعه وعود رومني، ولا كل أحاديث الجمهوريين حول نظرية السلام المضمون بالقوة العسكرية والضربات الاستباقية، ولا دغدغت كبرياءه غرائز النخبوية الأميركية المقتنعة بتفوّقها على غيرها من التجمعات البشرية.

ولكن في المقابل، لم يكن فوز باراك أوباما بالانتخابات الرئاسية معبّراً بالضرورة عن اهتمام الناخب الأميركي أو إعجابه بالمنهجية التشاركية التي يتبناها المحافظون التقليديون والمعتمدة مبدأ الدفع بالحلفاء إلى واجهة الصراع وتحميلهم قسطاً من المسؤولية الدولية لإظهار ديمقراطية أميركا ووجهها الناصع اللا إقصائي، فالقضية تكمن وبكلّ بساطة وفق استطلاعات الرأي السابقة لإجراء الانتخابات في عدم وجود رغبةٍ أو دافعٍ أو نيةٍ لدى أغلب الأميركيين لمجاراة أوهام أسياد المال المتناوبين على احتكار قرارات البيت الأبيض من الحزبين الطامعين باستعباد البشرية انصياعاً لمعتقدات الإمبريالية الفوقية المتبجّحة بمبادئ الحرية والديمقراطية والمدنية.

لقد ملت الجماهير الأميركية من فقدان أبنائها في حروب عبثية أشعلتها الطغمة المافيوية المحصورة المطامح بالسيطرة على الوظائف الحكومية والفوز بالانتخابات الرئاسية داخلياً، وخارجياً بتسيّد القوى العالمية.

ومع تصاعد التنافس بين الحزبين تكشفت رغبات دافع الضريبة الأميركي وتوجهاته، فلم تقنعه طروحات الجمهوريين أصحاب مشروع القرن الجديد الذين لا يختلفون عن المحافظين التقليديين سوى في الطريقة المتبعة لإكساء ديكتاتوريتهم القائمة على شعوبهم صبغة الديمقراطية، ولم تبهره توجهات السعي إلى منع إقرار قانون الرعاية الصحية والاستعاضة عنه بتحسين جودة الرعاية أو تحويل التأمين الصحي من نموذج قائم على المستحقات غير القابلة للتحسين إلى نموذج مضبوط مالياً، أو تغيير نظام العناية الخاص بكبار السنّ وذوي الاحتياجات الخاصة ميدي كير وذوي الدخل المحدود ميدي كيد إلى نظامين أكثر حيوية، أو معارضة تغيير قوانين تمويل الحملات الانتخابية باعتبارها تنال من حرية التعبير، من دون تناسي إعلان الحرب على المهاجرين غير الشرعيين والعمل على طردهم خارج البلاد، إضافة إلى تحريم الإجهاض وزواج المثليين ورفض تقييد بيع الأسلحة النارية وتخفيض الضرائب في جزء منها وإلغائها على الفائدة وعلى أرباح رأس المال بالنسبة لذوي الدخل المحدود.

فالشعارات الرنانة التي أطلقها الجمهوريون ملها أغلب الأميركيين، وتوجهت إرادتهم المقترنة بهواجسهم النفسية لترجيح كفة من تعهد بتوفير الوظائف للطبقات المتوسطة وحماية دماء الأميركيين وعدم توريطهم في حروب قضّت مضاجعهم.

تغلبت طروحات الديمقراطيين الذين أرادوا تشجيع المهاجرين غير الشرعيين لتسوية أوضاعهم بما يساعد في الإصلاحات الاقتصادية للبلاد والاستمرار في بناء قانون الرعاية الصحية وتحسين نظام – ميدي كير – ومعارضة خصخصته أو جعله يعتمد على القسائم مسبقة الدفع، وإيجاد قانون يكبح مجموعات الضغط والمصالح الخاصة اللاعبة في الانتخابات والسماح بالإجهاض وزواج المثليين وإعطاء الحرية للكنائس في اختيار كيفية إدارة الزواج كطقس ديني إضافة إلى وضع ضوابط بيع الأسلحة النارية مع السعي إلى تخفيض الضرائب على العائلات التي تحقق أرباحاً تقلّ عن ربع مليون دولار سنوياً، بما يجعل الضريبة تكبر على الأغنياء وتساعد في إعادة هيكلة الاقتصاد المتردية أوضاعه، وانتصر الديمقراطيون وطروحاتهم على ما سواها من طروحات جمهورية.

فما عدا مما بدا، وما الذي حدث خلال عامين من حكم باراك أوباما ليجعل الأميركيين ينقلبون في ليلة الرابع من تشرين الثاني للعام 2014 ضدّ البرنامج السياسي للديمقراطيين؟

على الرغم من اعتراف الجميع بالنمو الاقتصادي المتحقق في ظلّ رئاسة أوباما، والاستجابة للمطلب الشعبي بالانسحاب من العراق وأفغانستان، مع الحفاظ على مكانة أميركا كسيدة مسيطرة في العالم المتحضّر بدّل الناخب الأميركي ولاءاته لصالح برنامج الجمهوريين الساقط قبل عامين في منافسته الانتخابية، فكيف تحوّل الرفض لسياسات المحافظين الجدد الذين أذاقوا الأميركيين أصناف الحزن على أبنائهم إلى رغبة كاسحة في تسليمهم السلطة، ولماذا قدر مجانين القرن من الجمهوريين على انتزاع أهم المقاعد في غرب فرجينيا وكولورادو وأركنسو وداكوتا ومونترا وكارولاينا، وكيف لشاب جمهوري أرعن قادم من أركنسو جنوب البلاد تباهى في حملته الانتخابية بكونه جندياً سابقاً في العراق وأفغانستان أن يتمكن من الإطاحة بسيناتور عريق كمارك بريور.

أيعقل أنّ جميع الأميركيين باتوا قتلة متعطشين للدماء، أم أنّ سراً خفياً بدّل الأمور؟

لقد أظهرت جميع استطلاعات الرأي بما فيها تلك التي جرت في الأرياف البعيدة عن هاجس مربك لدى الأميركيين وخوف عظيم من عودة الحروب العبثية التي اختتمت بكارثتين للقوات الأميركية في العراق وأفغانستان، ترافقه خشية جدية من الغول المسمّى «داعش» القادم من البعيد إلى جوف أميركا، متأثرين بما تضخه قنوات الضغط المالكة لوسائل الإعلام التي عجزت في وقت سابق عن تغيير الرأي العام الأميركي نحو تأييد ضربة عسكرية ضدّ الجمهورية المقاومة السورية، لكن قصة عجز باراك أوباما عن إيجاد الدواء المناسب للقضاء على الإرهابيين أو منعهم من التمدّد في أقلّ تقدير، سعّرت الهواجس الأميركية، وكشفت ضعف الديمقراطيين وتشتتهم تجاه الأزمة الأوكرانية، وعدم قدرتهم على إيقاف النفوذ المتنامي للاتحاد الروسي الذي صنّفه أوباما كأحد الأخطار الثلاثة التي تهدّد البشرية لهذا القرن إضافة إلى «داعش» و»إيبولا».

عجزٌ أتاح الفرصة للجمهوريين لنصب الفخ المتقن للناخب الأميركي الراغب في القضاء على مصدر الخطر بأيّ وسيلة تجنّبه بذات الوقت إرهاق دماء أبنائه أو إزهاق أرواحهم على أي بقعة من بقاع العالم، فلم يسأل الأميركيون عن الطريقة المثلى للقضاء على الإرهاب، فمطلب الأمان الذي طغى على كلّ أولوياتهم بما فيها المطالب الاقتصادية أعمت البصيرة وغيّرت الحسابات ضدّ الديمقراطيين.

القضية خطيرة بلا ريب، لكن المدقق في جزئيات الصراع الداخلي بين الحزبين المتنافسين للظفر بالسلطة المطلقة يستطيع إذا ما عمل على ربط الأمور بالبعد النفسي للناخب الأميركي أن يدرك حقيقة الحاصل، وأن يعلم قصور الانتخابات النصفية وحدها عن تمكين المحافظين الجدد من نيل مرادهم، طالما أنّ أزرار التحكم بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية وقيادة جيشها ما زالت في يد الديمقراطي جداً باراك أوباما، وسينتبه إلى ما انتبه إليه جيداً كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري من أنّ ما جرى في الانتخابات النصفية لم يكن إلا ترجمة عملية لقرار الجماهير الأميركية دق ناقوس صارخ بجانب رأس أوباما كي يستفيق ومن معه من أوهامهم المحتوية على إسقاط الدولة السورية وحماية الكيان الصهيوني والسيطرة على العالم وضمان أمن أميركا في آن واحد، وبأنّ واجبه يقتضي وعلى وجه السرعة تقديم ما يجدّد ثقة الأميركيين بالديمقراطيين قبل أزوف موعد الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2016.

أمر لم يخفه قائد الأغلبية البرلمانية الديمقراطي هاري ريت عند قوله: رسالة المصوتين واضحة هم يريدون منا العمل سوياً، وأتوق إلى بدء العمل مع مكونيل لإنجاز شؤون الطبقة المتوسطة .

في أميركا يعلم الجميع أنّ التورّط في حرب ضدّ الجمهورية المقاومة يؤذي المصالح الأميركية ويدمّر كلّ أمل بفوز الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية القادمة لكونها حرباً ضدّ الرغبة الشعبية الأميركية.

والجميع يعلم أنّ الامتناع عن إنهاء الأزمة السورية الذي لن يكون إلا بالقضاء على «داعش» وأخواته، يعطي الأفضلية والامتياز للجمهوريين كي يتقدموا على الديمقراطيين المثبتين على أنفسهم صفة الضعف والعجز عن مواجهة الخطر القادم من الشرق.

ليبقى أمام شيخ البيت الأبيض وديمقراطييه خياران لا ثالث لهما، فإما الذهاب بالقوة الجارفة للقضاء على «داعش» وأخواتها بما يريح الدولة السورية في حربها ضدّ أعدائها وأعداء الإنسانية، ليفوّت الفرصة على الولايات المتحدة الأميركية لكسر المحور المقاوم.

وإما أن تصعد الضغوط على السوريين بوتيرة تسرّع تدمير الدولة المقاومة وتجبرها على التنازل عن شيء يريح الأميركيين عموما ويعيد تلميع صورة الديمقراطيون لقطع طريق البيت الأبيض على خصومهم المتحمسين خصوصاً.

خياران صعبان لا ريب، لكنهما ليسا أصعب من خسارة الانتخابات الرئاسية المقبلة.

خياران يستلزم أحدهما التضحية بمشروع التقسيم برمّته لحساب انتصار سورية، ويستلزم الآخر الكثير من الوقت الذي لا يمتلكه الديمقراطيون لكسر صمود المقاومين بالاستنزاف الطويل، والمحدّد مداه بأواخر العام 2016.

خياران تلعب حسابات الغرم والغنم دوراً أساسياً في تبنّيهما، ولا يخفى على أحد أنّ كليهما يصبّان في مصلحة الدولة السورية المقاومة.

الحلّ يدركه كلا الفريقين المتنافسين داخل أميركا، بيد أنّ تحقيقه بحاجة إلى الكثير من الجراءة والعقلانية على حدّ سواء من ساكن البيت الأبيض لتبنّي خيار الوفاق مع الأسد والتسليم بهزيمة مشروع تدمير الدولة السورية بشكل يفضي للقضاء على الوجود الإرهابي الذي أنتجته مخابر البنتاغون الأميركي ويجنب الأميركيون فيتنامً جديدة غير معروفة العواقب، ليحفظ مصالح أميركا ويعيد الديمقراطيون إلى مكانتهم القيادية داخل البلاد.

هي لحظة مفصلية في تاريخ الحرب ضدّ الدولة السورية، وعلى الدولة المقاومة استثمارها إلى أقصى مدىً من دون أن تهمل احتساب غباء أوباما وتوقع الأسوأ بفشله خلال العامين المقبلين من التوصل إلى تفاهم دولي ينجز الحلّ المطلوب، إضافة إلى ضرورة الأخذ بعين الحسبان إمكانية عدم تمكن أو عدم رغبة أوباما في القضاء على «داعش» وأخواته، مما سيفتح طريق البيت الأبيض على مصراعيه أمام المحافظين الجدد لبسط نفوذهم الشامل على مفاصل الدولة الأميركية، ولنذهب وقتها إلى جولة جديدة من حرب الاستنزاف الطويلة التي أعلنتها الولايات المتحدة الأميركية ضدّ الدولة المقاومة مطلع العام 2011، بما يوجب على المحور المقاوم وحلفائه تحركاً مختلفاً وتغييراً للتكتيك المستهلك على مدى أربع سنوات ماضية لأجل شلّ قدرة الأعداء، متخطين بيروقراطية مقصودة تحدث عنها وزير الخارجية السورية وليد المعلم في تصريحاته الأخيرة.

محام

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى