بضاعتكم رُدَّت اليكم ومعها سماسرة البنوك
د. رائد المصري
بهدوء… فليس باستطاعة أحد بعد اليوم الرجوع الى الوراء في ما يُرسم عالمياً على مستوى الجَدَل القائم والنقاش الحاد لناحية السياسات الاقتصادية التي جنح نحوها النظام الرأسمالي العالمي المأزوم ببنيته بعد أن تَفلَّت لثلاثة عقود في تدمير بنى المجتمعات وطبقاتها الوسطى وقدَّم نفسه بديلاً تحريرياً في الأسواق والأنماط الثقافية والتعدُّديات السياسية المزيَّفة، التي ارتبطت بكارتلات بيع السلاح وبالمجمَّعات الصناعية العسكرية الضخمة وإمساكها بالآليات وبالشركات الإعلامية التي قادت عمليات التخريب المذهبية والطائفية، وتماهت وسهَّلت الطريق للهيمنة الاحتكارية لأدوات البنك الدولي والذين أمْعَنوا في تكريس الاصطفافات العمودية وتظهير الخصوصيات الذاتية في الدِّين والعِرق والطائفة والمذهب، وربطِها بعلاقات كولونيالية عمادها الدولي التفرُّد والأحادية وتعميم الاحتكار والمضاربات ومعها ثقافة الفساد والتهرُّب الضريبي الذي أصاب الدول والشعوب الفقيرة وطبقاتها المتوسطة في أكثر من موضع…
إنّها فعلاً الحالة الأمثل لإحداث عمليات تغيير بنيوية تضمن التعدُّدية في مسارات التغيير الحاصلة اليوم، والتي تعبِّر عنها التظاهرات والاحتجاجات في العالم الغربي والعربي الإسلامي، رفضاً لدوام هذا الانصياع الذي أذلَّ الشعوب وصنع لها حروباً قبلية وطائفية تضمن استمرار تسلُّطها وتسلُّط أدواتها وسماسرتها على مقدّرات الشعوب وضماناتها الاجتماعية، وبفرضها للضرائب العالية وإمعانها في القيام بمضاربات مالية وخلق الاقتصادات الوهمية وزيادة البطالة وعولمة الهجرة خدمة للرأسمال المتوحِّش.. فها هي فرنسا ونُخَب حكامها تخضع وتنصاع لإعادة تصويب العلاقة بين الحكام والرعايا ولن تقف عند هذا الحدّ، فالعدوى ربما ستصل وستصل الى لبنان الذي يعيش في أخطر مراحل الإمبريالية المالية التي تتحكَّم الشركات والبنوك بكلِّ قراراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحقوق الناس…
أحد أهمّ إفرازات وعصارة هذا العالم النيوليبرالي المأزوم المخيف والمقزِّز هو اليوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب كصورة لعَصَبِ هذا التوحُّش الاستعماري الإمبريالي الذي ضربه العَفَنُ والتَلَف، ورئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتن ياهو كَيَمِيْنِي عنصري يتآكله الفطر والتَقَرُّح السياسي من الداخل قبل الخارج الذي أُصيب بهزائم كبيرة أفقدته بأنْ يكون عنصراً في الاحتياط الأمني الإقليمي، مسانداً وظهيراً لبعض الرجعيات العربية في حال أصابَتْها الانتكاسة وهي حاصلة بالفعل. والثالث هو وليُّ العهد السعودي محمد بن سلمان المأزوم والمضطرب والمتَّهم والمُلاحق والمُنْعَزل من الداخل وفي الخارج في انتظار استكمال باقي الترتيبات في المملكة…
فلن يكون أوضح بعد اليوم من هذه الصورة التي أراد أصحابها الاجتماع والظهور العلني للتنسيق وإنقاذ ما يُمكن إنقاذه ممَّا سمُّوه صفقة القرن، وطمس قضية مقتل الخاشقجي واستكمال تهويد القدس وطرد الشعب الفلسطيني بعد ذبحه، والاستدارة نحو إيران لتصفية حركات المقاومة في لبنان وسورية والعراق. فكلُّ هذا السيناريو سقط وباتوا أحْوَج ما يكون فقط الى استمرار ولاية حُكمهم واستكمالها بعيداً عن التحقيقات والفضائح التي تطالُهم في قضايا الفساد والتحرُّش وقبْضِ الرشاوى، أو في جرائم القتل والإبادة الجماعية. فهي بكلِّ الأحوال صورة سوداوية لنظام معولم متوحِّش حيث لا تقلّ خطورة بقائهم في السلطة عن خطورة بقاء بعض القادة والنُّخب الحاكمة في الغرب الأوروبي بالتحديد الذين أفلسوا بلدان أوروبا بعد أن رَهَنوها ملحقةً بالسياسات والمغامرات الأميركية، وبعد أن نَكَّلوا بالطبقات الشعبية الفقيرة والمُعدمة وحَكَّموا بهم بنوك المال عبر تسلُّطهم المباشر عليهم والإمعان في التهرُّب الضريبي لصالح الطبقة الاحتكارية المضاربة التي تحيا كالعوالق على دماء الناس وديمومة بقائهم في دائرة الحروب والفتن…
لن يكون مصير محمد بن سلمان ونتنياهو وترامب إلاَّ كآخر عملة يتمّ التداول بها في النظام النقدي الدولي القديم، وتدفيعهم أثمان هذا الانتكاس السياسي والاقتصادي والريعي والأمني ومعهم ماكرون وتيريزا ماي كنماذج ضعيفة متردِّدة، تمارس أدواراً وظيفية في دوائر صنع القرار الدولي للغرب الاستعماري، وها هم قد فقدوا مبرِّرات استمراريتهم في الحكم بعد الخروج من بريكست وبوادر تفكُّك الاتحاد الأوروبي والإفلاسات التي تدركه، ومطالب أصحاب السترات الصفراء في كلِّ فرنسا وانتقال عدواها الى تونس والأردن ولبنان والمجتمع الصهيوني…
ربَّما صدمات على الطريق الفرنسية تتقلَّص معها مساحات الفساد والسرقة والتهرُّب الضريبي، وتكبيل يد تسلّط أصحاب المصارف ومدراء الشركات ونزع الامتيازات التي أطلقتها ومنحتها لهم الطبقات السياسية وإعادة تغليب منطق الدولة في مشروعاتها الاقتصادية التي تمّ نحرها باسم تقديس العولمة والخصخصة وتعميم شراكات الفساد بين أبناء هذه الطبقات الناهبة للمال العام المؤدِّية لدور السمسار الدائم للخارج، في كيفية استباحة الاقتصاد وتهريب رؤوس الأموال وإعفائها من أيَّة ضريبة مستحقة عليهم…
إنها أزمة بنيوية لنظام رأسمالي بات فاقداً السيطرة على الإمساك بمفاصل الدول التي سلَّمها سلفاً، وسلَّم معها منطق سيادة الدولة التي تحمي الشعب وتمنع إغراقه وتتدخّل كحامٍ وضامن للمؤسّسات ولبنى المجتمع الفوقية والتحية. منطق سيادي تسلَّمت قراراته وهيمنت على مقدراته الشركات التجارية والاحتكارية وبنوك المال والأعمال والسماسرة، حيث صار لها متخرّجون من مدارسها على طراز ترامب وإبن سلمان وماكرون وقبلهم ساركوزي وهولاند وبرلوسكوني والعنصري نتنياهو فتكشَّفت فضائحهم ومشاريعهم وفسادهم الأخلاقي والقِيمِي، فظهرت عورات هذا النظام المعولم وبانت هياكله الكرتونية وغالباً ما سَتُرَدُّ هذه البضاعة التي صدَّروها الى الشعوب الفقيرة إرهاباً واضطرابات وتأزيم عليهم بمفاعيل رجعية مؤلمة تؤسِّس لجيل جديد من النُّخَب السياسية والثقافية تمزج بين الحق في ليبرالية مقدَّسة واشتراكية دافئة، وما بين حرية التجارة والأسواق وتدخل الدولة حيث يجب أن تكون، وهي اليوم بدايات قيد التشكل والتنظيم، تتكامل مع التطورات والحراكات الجارية إقليمياً ودولياً وتتماهى معها في كلِّ محطة وأزمة مفتعلة تُعيد الاصطفاف وتبلور المواقف وتظهره الى السطح كنسخة جاهزة منقَّحَة علَّ هذا ما يُعيد الى الطبقات الشعبية بعضاً من حقوقها.
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية