شوقي الرياشي… فجأةً ترك «نبتة» الخلود ورحل!
نظام مارديني
ندرك أن لا مستحيل في الحياة، لكن للمستحيلات ثمن باهظ، بينها الموت أحياناً.. شوقي الرياشي بكلّ عنفوانه، بكلّ تأريخه وابتسامته يُوارى الثرى مرة واحدة وإلى الأبد… بكلّ حواسه الممتلئة بالفضول والمعرفة وإغاثة المحتاج يُوارى الثرى مرة واحدة وإلى الأبد.
هكذا يتخذ الموت طابع المفاجأة، حتى لو كان متوقعاً… وكأنه يقع لأوّل مرّة فلا موت قبله!
إذا كان الحزن بوابة السواد فهو أيضاً مدعاة للعمى، حين يستحضر القلب من يحب في الـ هنا ، يصعب عليه تقبّل البعد، فيقبع في عالم السكون لتأسره الذكريات، فيصبح محطاً تأتي وتغدو فيه الأفكار.
غادر من دون وداع أو وصايا.. كلّ ما هنالك أنه لملم ما تبقى له من حنين الى الأرض، أرضه التي لم يحب أرضاً أخرى غيرها، وقفز الى السماء.. وبهذا الرحيل انطفأت شمعة أحد أهمّ المثقفين القوميين المشاكسين، والمتمرّدين والمعروفين بشجاعتهم النادرة.
فقدان شوقي الرياشي، الأمين، والصديق والأخ، الذي ظلّ مفجوعاً بما صار إليه وطنه، يثير أشجاناً وحسراتٍ لمن عاش زمنه ورافق تشوّفه لعالم آخر جديد ينبض بقيم العدالة، ويتفتّح فيه الأمل.
هذا الموت وحده يكشف معنى الوهم، ويُطيح بتشبّثاتنا الملتاعة بحثاً عن «نبتة» الخلود التي أسقطَنا كلكامش في حبائل وجودها و»أوهمنا» بأنه على مقربةٍ من مبتغاه، قبل أن يسقط هو نفسه في جُبِّ خيبته فيموت من دون أن يتعرّف على معنى الحياة التي كان يبحث لها عن خلودٍ عبثي. ومع ذلك بقينا ندور مذّاك في متاهة كلكامش، ونتفنّن في «تخليق» مشاتل لنبتة الخلود، ولن ينفضَّ عنهم وهمُ فجيعتهم سوى بالموت، بوصفه الحقيقة المطلقة العصيّة على الانكشاف..!
الأمين شوقي الرياشي.. لطالما كان الموتُ تضحيةً وقرباناً لغدٍ واعد وحياة كريمة لأولئك الذين يمنحون المعنى العميق للحياة وهم يقتحمون مسالكها الوعرة، ويتجشمون تحمّلَ صروفها لترتقي كرامة الإنسان.. في كامل هلالك السوري الخصيب، ولتصبح قامته هي معنى السموّ.
كنا نتساءَل جميعنا عمّا سيحصل لنا بعد الموت. عندما يموت شخصٌ عزيزٌ علينا نتوق أن نراه عندما يأتي دورنا للانتقال. هل سنحظى بلقاء مجيد مع مَن نحبّ أم أنّ الموت هو نهاية كلّ صحوة؟
لقد علّم يسوع أنّ حياتنا لا تنتهي بعد موت الجسد.. وكان تصريحه المدهش: «أنا هو القيامة والحياة. مَن آمنَ بي وإنْ ماتَ فسيحيا».
أعرف أنك تركت خلفك موتاً ناقصاً، لأنّ موتك لا يشبه الموت، فثمة مَن يجدك أمامه، اليوم، يقتسم معك الحوار والكأس والضحك.. موقفك كان كيائس كبير من حياة ملتبسة، كئيبة، «كافكوية»، عرضة للااستقرار والجوع والخوف واللاعدالة الحياة التي لا يمكن مواجهتها إلا بالسخرية، عندما لم يعد ثمة أمل في أيّ حوار جادّ أو منطق مقبول أو أيّ جدوى.. وجه الكآبة الضاحك. الضحك ليس قهقهة فارغة بل هو قرين السخرية السوداء.. من كلّ شيء.. أراك، الآن، تضحك من موتك.. ومن حياتنا وموتنا، من موت الأحلام منذ زمن بعيد.
شوقي.. الذي يتقرّبُ منكَ ولا يسألكَ تصديقه، هو يحرّضك على الاستماع إليه، ويضعُ الكلمةَ بين جفنيكَ كي تراها، صورةً إطارها مدلولاتها التي لا تعجزهُ، ويرتقي بفمكَ كي تهتفَ بلحظةِ تصديقه والابتهاج بموقفه.. يا الله!
لا يتركُ شوقي، الصحافي، الساخرُ من تفاصيل الحياة، أصدقاءهُ الذين يخوضُ معهم المعرفةَ، من دون أن يوصلهم إلى ما يسعى إليه من إغراقهم في شأن فكرتهِ.. فهو لا يتركُ نهايةً منفلتةً، ولا سائبةً، بل يمسكُ الكأسَ التي سقاك منها ويعيدها ممتلئةً بقناعتكَ ورضاكَ ولذّتكَ مما حكى أو قال أو كتب.
كلّ الذين تحدثوا عنك، تحدثوا عن سخريتك وبحة صوتك وضحكتك المجلجلة، وربما لا يعرف الكثير منهم أنك كنت تضمر حزناً كبيراً في داخلك، كنت تعيش بسلام مع محيطك وبحرب مع أعماقك… كنتُ مع الشلة الأقرب إليك، عيسى أحوش كارلو جوليان ورافع حمية وخالد قعسماني ونضال قانصو، الذين عرفوا أنك في السنوات الأخيرة انصرفت لوجعك، الروحي والجسدي.
الآن، ها أنا أتوهّم النظر إليك وأنت في رقدتك الأخيرة.. لا أدري ما الذي جعلني أتيقّن أنك ستفاجئني بضحكتك المعهودة وسخريتك لنُكمل نقاشاتنا الصاخبة ونترك هذا المكان الكئيب… لم أكن أدري كيف كنت تؤلف بين المتناقضات تدجّنها جميعاً وتضحك.
الضحك الساخر موقفاً.. هذا ما جسّده شوقي في حياته، رغم حياته الغنية، والمثقلة بالخيبة واليأس والبحث. تحوّلت الطاقة لديه إلى سخرية، على مدار الساعة، سخرية سوداء تمشي على قدمين من صناعة فتى «قاع الريم» الأسمر.
أمين الروح شوقي.. عرفتك في أمكنة مختلفة، في حوارات مختلفة، في جميعها كنتَ إنساناً يذكّرُ بالمعرفة الشاملة كما بالفطنة. فقد كنتَ قومياً شاباً – وشيخاً قومياً يعرفُ كيف تنتهي المحنةُ بصحو.
كنتُ متيقناً أنه لا يمكنك ان تترك بيروت التي سكرتَ بسحرها وخمرها، وصارت أمك التي تمنحك الأصدقاء والكلمات والعطايا، والأهم القصص العجيبة ومزيداً من الطرائف، كلّ من عرفك يقول أنك شققت طريقك وسرت فيه، وأصررت على أن تحيا منسجماً مع نفسك.
سأظلّ أشعر بالحنان الذي أحمله إليك وأنت الذي امتلأت حياته بالمسرّات والأحزان وببراءة الحياة التي كان يحياها بعفّة ضميرٍ نادر، وطيبةِ قلبٍ لن تتكرّر .
أردتُ أن نلتقي بسهرة الميلاد، كما في كلّ عام، أهنئك بالسنة الجديدة، فإذا التهنئة تنقلب إلى حبة قمح.. وكأنك أردت أن تذكرنا بنبتة كلكامش في بحثه عن الخلود.
يقول شاعر غواتيمالا، أمبرتو أكابال: «حين وُلِدْتُ.. قَطَّروُا دمعاً في عيني.. ليكون بصري.. بحجم آلام شعبي».. هكذا كان شوقي الرياشي!
من قال إنّ البكاء حكرٌ على عامة الشعبِ.. بل هو أيضاً صديقي الدائم عندما أفقد عزيزاً؟