أكذوبة الاعتدال الأميركي
د. تركي صقر
استولى «داعش» على آلاف أطنان الأسلحة الأميركية الحديثة من الجيش العراقي، فاجتاح بها ما لا يقلّ عن ثلث مساحة العراق، كما استولى على كميات كبيرة من أسلحة ألقتها الطائرات الأميركية للمدافعين عن عين العرب. واستولت «جبهة النصرة»، بدورها، على مئات الأطنان من الأسلحة والذخائر الأميركية ممن تسمّيهم واشنطن «الجيش الحر» أو «المعارضة المعتدلة السورية»، وهذا ما يدعو إلى التساؤل: هل يجري ذلك بمحض المصادفة؟ علماً أنّ ضمن هذه الأسلحة كميات هائلة من صواريخ «تاو» المضادة للدروع وقذائف متطورة للفتك والتدمير، كانت واشنطن قد سلمتها إلى المجموعات الإرهابية لمحاربة الجيش السوري من أجل إحداث تغيير في موازين القوى على الأرض، ولكن من دون جدوى.
وما يدعو إلى الدهشة والعجب وحتى السخرية أحياناً، هذا التناقض الفاضح في السياسة الأميركية. فبعد أن وضع «داعش» يده على ترسانة الأسلحة الأميركية من الجيش العراقي وخصوصاً في معسكرات الموصل، والمرجح جداً أن يكون ذلك بعلم البنتاغون والاستخبارات الأميركية، قامت واشنطن بإنشاء التحالف الدولي لتوجيه الضربات الجوية ضدّ «داعش» من دون أن تؤثر في هذا التنظيم أو تحدّ من تمدّده وقوته، بل كانت الحصيلة بعد ما يقارب الثلاثة أشهر، بائسة ومتواضعة للغاية ولا تتناسب مع تكاليفها التي وصلت إلى مئات الملايين من الدولارات حتى الآن.
وما يدعو إلى الاستغراب، إقدام إدارة أوباما على تزويد مجموعات معروفة بجرائمها الإرهابية بأحدث أنواع الأسلحة بما فيها الصواريخ المتطورة، وتسميها «معتدلة»، رغم أنها تعلم علم اليقين أنها ستصل كلها تقريباً إلى أيدي جماعات صنفتها الولايات المتحدة بالذات على أنها إرهابية كـ «جبهة النصرة» و«داعش»، وقد حُذّرت واشنطن قبل تسليم هذه الأسلحة من أنها ستصل إلى الجبهة وغيرها، ومن أبرز الدول التي حذرت ونبهت إدارة أوباما مراراً وتكراراً روسيا الاتحادية، وكان حصاد إدارة أوباما جراء سياستها الخرقاء هذه، تبخّر أكذوبة ما يسمى «الجيش الحر» وذهاب الأسلحة الأميركية إلى تلك المجموعات التي تدّعي الولايات المتحدة أنها أقامت التحالف الدولي لضربها.
هي ليست المرة الأولى ولا الثانية التي ترسل فيها إدارة أوباما أطناناً من الأسلحة المتطورة إلى سورية وتسلح بها المجموعات الإرهابية تحت مزاعم ما يسمى «المعارضة المعتدلة»، التي سرعان ما تهزمها مجموعات متطرفة أخرى وتستولي على أسلحتها، ومن غير المعقول أن تغيب هذه الحقائق في كل مرة عن بال شبكة الاستخبارات الأميركية العالمية، ما يعني تكرار الفشل الأميركي أو الإصرار الأميركي على إغراق سورية بالسلاح ووضعه في يد ما هبّ ودبّ لإطالة عمر الأزمة وسفك المزيد من دماء السوريين وتدمير الدولة السورية ومؤسساتها تدميراً ممنهجاً.
وما يؤكد أنّ لدى الإدارة الأميركية نيات مبيتة ومخفية، عكس ما تقوله وتعلنه، أنّ تحالفها الدولي وضرباته الجوية زاد من قوة تنظيم «داعش» و«النصرة» تسليحاً وعدداً ولم يضعفه، ما يفضح عدم جدية واشنطن في القضاء على الإرهاب أو إنهاء تنظيمي «داعش» و«النصرة». فها هي صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية تنقل عن مسؤولين في الاستخبارات وأجهزة مكافحة الإرهاب تأكيدهم أنّ أكثر من 1000 مقاتل أجنبي يتدفقون إلى سورية كل شهر، وهو المعدل الذي لم يتغير إلى الآن حتى بعد الضربات الجوية ضدّ «داعش»، كما أنّ الجهود المبذولة من قبل الدول الأخرى لوقف تدفق ما يسمى المجاهدين لم تغنِ أو تسمن.
وأكدت الصحيفة أنّ حجم الهجرة المستمرة يشير إلى أنّ «الحملة الجوية التي تقودها أميركا لم تردع أعداداً كبيرة من المقاتلين من السفر إلى المنطقة، بل كانت تدفع بالكثيرين منهم ليأتوا إلى الحرب في العراق وسورية بسبب التدخل الأميركي». ونقلت الصحيفة عن مسؤول في الاستخبارات الأميركية قوله إنّ تدفق «المقاتلين إلى سورية ما زال مستمراً، ولهذا السبب ما زال العدد الإجمالي يستمر في الازدياد. وحذر مسؤولون أميركيون من أنّ هناك تأخراً في إجراء بحث استخباراتي من قبل وكالة الاستخبارات المركزية ووكالات الاستخبارات الأخرى، وهذا يعني أنه قد تمرّ أسابيع قبل أن نشهد تغييراً واضحاً».
وتابعت الصحيفة: «خلال السنة الماضية تجاوز إجمالي عدد المقاتلين الأجانب في سورية الـ16000، وعزا مسؤولون أميركيون تلك التدفقات إلى مجموعة من العوامل، بما في ذلك حملات التجنيد المتطورة المدبرة من قبل جماعات في سورية مثل «الدولة الإسلامية» والسهولة النسبية في شقّ المتشدّدين طريقهم من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا إلى هذا البلد عبر تركيا والأردن وحتى لبنان».
لمعرفة ماهية ما يجري على الأرض الآن من تقاتل وقتال وعراك وسحق بين القتلة أنفسهم، من المهم جداً أن ننطلق من بديهية أولى لا تفوت أي متابع وهي أنّ هذه الأطياف المختلفة بمسمياتها من العصابات الإرهابية، ما هي إلا أدوات مصنعة غربياً وأميركياً وتحركها عن بعد الاستخبارات التركية والأميركية، بتمويل سعودي وقطري كامل، وهي أفرع متعدّدة للقاعدة بما فيها تنظيم الإخوان المسلمين الذي يحاول أن يظهر بمظهر آخر، كما أنّ تنظيم «القاعدة» كان وسيبقى الذراع السرية لحلف الناتو والدول الأعضاء في حلف الناتو جميعاً.
الخلاصة أنّ أكذوبة الاعتدال الأميركي سقطت، وأنّ ما يجري من اقتتال تصفوي بين العصابات المسلحة بين الحين والآخر، ما هو إلا إخفاق أميركي مستمر ومتكرّر في الوصول إلى صيغة تحقق لها ما ترمي إليه من تغيير في موازين القوى على الأرض بهدف كسر إرادة الجيش والشعب السوري وتركيعهما بواسطة العصابات الإرهابية التكفيرية، وقد أضحى هذا من رابع المستحيلات بعد أربع سنوات حققت خلالها القوات المسلحة السورية نجاحات باهرة تعجز أقوى جيوش العالم عن تحقيقها، وأبدا بها السوريون صبراً وتحملاً ومعجزات من الصمود الأسطوري قلّ نظيرها في التاريخ المعاصر.