رواية تولستوي «موت إيفان إيليتش» بالعربيّة… أسئلة الوجود حول هشاشة الإنسان

صدرت حديثاً بالعربية رواية تولستوي 1828 1910 «موت إيفان إيليتش» 1868 ، في منشورات «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في القاهرة، ضمن سلسلة «الألف كتاب»، في ترجمة لمها جمال وتقديم لرفعت سلام.

تدور في هذه الرواية مناقشة بين بطلها، نموذج الموظف المثالي، الجادّ في عمله والطامح إلى الارتقاء في السلّم الوظيفي، وطبيبه إثر سقوطه فريسة للخوف، ثم استسلامه للموت إثر مرض مجهول أصابه. وهذه المناقشة الصغيرة تشي باستسلام إيفان إيليتش أو القاضي للموت بعدما كان خائفا منه، لكن هذا الاستسلام مبعثه أولاً الحكمة لديه، حتى غَدا في كثير من خطبه يقوم بدور الواعظ الديني: «كلّ شيء مجاف للحقيقة، حتى حياتك نفسها، كذب وخداع، تحجب عنك حقيقة الحياة والموت». تنتهي الرواية بموت القاضي بعد عذاب ثلاثة أيام وصراخ وأنين موجعين، إذ عرّى الصورة الزائفة للحياة ولمن حوله.

لا يمكن فَهم دلالة الرّواية العميقة، رغم البساطة الواضحة والمباشرة، إلا بالعودة إلى السّياقات الثقافيّة التي أنتجت الرواية في زمنها، خاصّة بعد التحوّل الذي طرأ على شخصية تولستوي نفسه في أعقاب هجره المَسيحيّة ومناهضته سياسة الكنيسة ورفضه العنف ودعوته إلى السّلام وعدم الاستغلال وميله إلى الحياة البسيطة. يمكن اعتبار الرواية مخاضاً لتجربة حقيقية عاشها تولستوي وعبّر عنها في قصته «مذكرات رجل مجنون»، وهي خلاصة رحلة قام بها إلى مدينة أرزماس. إنها في معنى أدقّ نَتاج «رعب أرزماس»، وفق ما عبّر عنه صديقه مكسيم غوركي، واصفاً ما اعتراه بعد تلك الرحلة الفارقة في حياته، إذ عصفت به أزمة روحية جعلته في مواجهة مع الموت.

بعدما كان يخاف من الموت بات في مواجهة معه، وفي ضوئه راجع مواقفه، خاصة بعد أزمته مع الكنيسة إذ راح يكتب عن الدين والسياسة. هذه الفلسفة التي خَرج بها من محنته تجلّت في هذه الرواية القصيرة «موت إيفان إيليتش»، أو كما أسماها «موت قاض». ومن هنا أهميّة الرواية أنها تؤسّس لمرحلة جديدة في أدب تولستوي مغايرة تماماً لما قدّمه في «الحرب والسلام» 1868 ، أو «آنا كارينينا» 1877 وغيرها من الأعمال، كأنها وعاء أيديولوجي حوى أفكاره المثاليّة ومراجعاته لفلسفة الحياة، متخذاً موقفاً من الموت والحياة أكثر جرأة مما كان عليه.

يبدأ الراوي قصّة إيفان من نهايتها، ليكشف لنا كيف أضحى الموت حدثاً قابلاً للاستغلال، فأصدقاء القاضي الذي كان زميلا لهم يقرأون خبر وفاته في الصحيفة، وهم في استراحة المحكمة، لكن الخبر لا يمرّ عليهم بصورة تكشف عن تأثّرهم أو حزنهم لفقد صديق كان بينهم ذات يوم، بقدر ما يكشف كيف أنّ لكلّ شخص غرضاً سوف يتحقّق بهذه الميتة. ثمّ كان الموت دافعاً لحياة جديدة لآخرين، فأحد هؤلاء الأصدقاء أتاحت له الوفاة التفكير في شغل مقعده الذي سيخلو بعده. والثاني سيستغل الوفاة كي يثبت لزوجته أنّ في استطاعته أن يقدّم خدمات إلى أقاربه، فالوفاة ستؤدي إلى انتقال زوج شقيقته إلى المدينة، ما يسعد زوجته بالتأكيد. الغريب مع هذا الخبر السيّئ أنهم يواصلون لعب الورق. أمر الاستغلال غير بعيد عن الزوجة التي لم يشغلها سوى التفكير في مقبرة رخيصة وكيفية الحصول على منحة الحكومة بعد الوفاة؟ أو كيف تجعل المنحة تزيد؟ وهي الأسئلة التي كانت متردّدة في طرحها على صديقه بيتر إيفانوفيتش، وإن كانت تراودها كثيراً.

بعد مقابلة الطبيب انتابت شخصيته تغيّرات كبيرة. تبدّلت نظرته إلى الأشياء و«بدا كلّ شيء في الطريق باعثا على الكآبة سائقو التاكسي، البيوت، المارّة، والمحلات، كانوا يبعثون على الغم، وألمه هذا الغامض المزعج الذي لم يتوقف للحظة واحدة، بل إنه اكتسب مغزى جديدا وخطيرا بملاحظات الطبيب المشكوك فيها» ص61 . السؤال الذي ألحّ عليه هل هو الموت؟ يقول في مناجاة ذاتية: «الموت، نعم، الموت، ولا أحد يعرف أو يتمنى أن يعرف الموت، ولا أحد منهم يشفق عليّ، إنهم الآن يلعبون سمع من خلال الباب الصوت البعيد لأغنية والأصوات المصاحبة لها بالنسبة إليهم، كل شيء سواء، لكنهم سيموتون أيضا! ثم هم في وقت لاحق، لكنه سيكون سواء بالنسبة إليهم، هم مرحون الحيوانات!» ص 72

لا تراعي الزوجة مرضه بل تستغل هذا المرض خشية ألا تفقدَ ماله، وابنته غير مبالية به، إذ ترتدي ملابس السّهرة وتخرج مع أمها إلى الأوبرا، بل تعقدان خطبتها على القاضي الشّاب، كأنّ لا مكان لأحاسيس وسط هذا المجتمع. وبعد تعدّد زيارات الأطباء وفشلهم في طمأنته تبدأ مرحلة جديدة، لحظة انتظار الموت التي أضحت لإيفان إيليتش بمثابة لحظات للتأمّل في المحيطين به، وإعادة تقويم ومراجعة الماضي وللعلاقات. واللافت أن الراوي يركّز في محنة المرض التي لازمته شهوراً على تتبع تصرفات محيطه، ومراجعة حياته الماضية على مهل، ساخطاً من أفعاله ووقته الذي بدّده في انهماكه في عمله واشتغالاته التي جعلته أشبه بآلة منتظمة في دولاب العمل. تلك المراجعات لماضيه تعكس جوهر الفلسفة التي ترمي إليها الرواية القصيرة، وهي أن الإنسان لا يدرك قيمة العلاقات إلاّ في أوقات المحن أو لدى اقتراب الموت، فالعلاقات الإنسانيّة أهمّ من المناصب وأهمّ من الجري لجمع المال، لأنّها الذخيرة الباقية، وهذا ما أدركه في النهاية: «إنه -مع الأسف- لم يعش حياته كما كان ينبغي له أن يعيشها».

رغم صغر حجم الرواية وسردها البسيط الذي يخلو من التعقيد، إلاّ أنها تقف عند معان إنسانيّة نبيلة، فتكشف عن ضعف النفس البشرية، وتنتقد زيف الحياة الأرستقراطية، بتسليط الضوء على هشاشة النفس، وأن ثمّة في الحياة أموراً تستحق أن تمنح أو يستمتع بها، وفي المقابل الإنسان ضعيف، فتلك السقطة من فوق السّلم التي لم يشعر بتأثيرها آنئذٍ حوّلت حياته إلى جحيم، ثم كشفت له في فترة الاحتضار عن خواء ماضيه السابق. الثلث الأخير من الرواية تساؤلات حول الحياة والعذاب والموت، وعمّا يريده؟ وغيرها من الأسئلة التي تتصل بالفلسفة الوجودية، ويعكس بعضها قنوطه من كل شيء: لِمَ كل ذلك؟ أو مثل تساؤلاته إلى الله «لماذا تفعل بي هذا كلّه؟ لِمَ أحضرتني إلى هنا. لماذا، لماذا تعذبني بتلك القسوة؟» ص، 99 . فالكاتب نجح في تحويل نهاية موظف مرموق اجتماعيّا ومهنيّا، في لحظة احتضاره، إلى وعي مؤلم بتفاهة حياته وزيف علاقاته الأسرية، وينجح بالتالي في إبلاغ رسالته حول الاستمتاع بالحياة ودعوته إلى السلام النفسي، عبر بقعة الضوء التي خلقتها تأملاته، فندرك أن في الحياة أموراً تستحق أن نستمتع بها، لعلّ أهمها البساطة والعلاقات. ألا تعتبر هذه الرواية دعوة إلى الحياة وإدراك معانيها الغائبة والمفتقدة في ذروة انهماكنا بالركض في دائرتها المغلقة؟!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى