واحد واحد… أيام لها تاريخ

معن بشور

يبقى يوم «واحد – واحد» من كل عام يوماً استثنائياً في حياة لبنان وفلسطين والأمة العربية.. نتذكّره كل عام ونستعيد تفاصيله وندرك كيف تكتب الشعوب مصيرها بدماء شهدائها حين تريد…

في 1/1/1965 يوم انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة والمستمرة، كان لي مع رفاقي شرف المواكبة منذ الرصاصات الأولى. حين جاءنا في يوم ماطر أوائل ذلك العام الى مكاتب جريدة الأحرار الناطقة باسم حزب البعث، رجل متوسط القامة، اصلع الرأس، واسع العينين، بارز التصميم، يطلب مقابلة المشرف العام على الجريدة، عضو القيادة القومية لحزب البعث آنذاك، النائب والوزير في ما بعد، الدكتور الراحل علي الخليل، معرفاً عن نفسه باسم حسني ويحمل توصية من المهندس خالد الشرطي رحمه الله أحد أبرز البعثيين الفلسطينيين.. وبعد المقابلة خرج الدكتور علي حاملاً بلاغاً عسكرياً مطبوعاً باسم حركة التحرير الوطني الفلسطيني قوات العاصفة ليعطيه لرئيس التحرير آنذاك المرحوم الأستاذ الياس الفرزلي وليخبرنا كأسرة تحرير أنه تسلّم بلاغاً عسكرياً بأول عملية فدائية ضد الكيان الصهيوني…

أدركنا يومها أننا امام حدث مفصلي، وأدركنا ان نشر البلاغ لن يمرّ بسهولة في زمن كان المكتب الثاني ممسكاَ بزمام الأمور في البلد، لكن كان هناك إجماع على نشر البيان أياً كانت العواقب… فالأمر يتصل بفلسطين التي كانت، ولا تزال، محور نضالنا واهتمامنا.. وما أن صدر عدد الأحرار ، وفيه البلاغ الشهير، حتى اشتريت من السوق أعداداً عدة وأخذتها معي الى الجامعة الاميركية، حيث كنت ادرس الاقتصاد، وقمت مع عدد من رفاقي أذكر منهم الوزير بشارة مرهج، والمفكر الراحل رغيد الصلح والصديق عماد شبارو، وآخرين بتوزيع الصحيفة على بعض الزملاء وقد غمرنا الشعور بالاعتزاز أننا أمام حدث كبير سيحرّك المياه الراكدة في مستنقع النظام الرسمي العربي الذي يملأ الدنيا ضجيجاً حول فلسطين، ويتجنّب تحت ذرائع شتى، أي عمل جدي من أجل تحريرها…

وهكذا انطلقت الثورة الفلسطينية… وانطلقت مواكبتنا لها دون أن نجهل حجم العوائق والصعوبات والمخاطر التي ستواجهنا ونحن حريصون على مواكبتها والدفاع عنها برموش العيون.

-2

قي 1/1/1969 وبعد عام ونيّف على هزيمة حزيران 1967، وفي جو تصميم عالٍ على ضرورة استكمال البعد الفلسطيني للثورة ببعد قومي عربي، أطلقنا مع رفاق لنا في حزب البعث، فلسطينيين ولبنانيين وعراقيين وسوريين ومن أقطار عربية عدة… جبهة التحرير العربية… كإطار عربي للعمل الفدائي على طريق فلسطين… وذهبت المجموعة الأولى من المتطوعين الى معسكر التاجي في بغداد في دورات تدريبية بدأت في 1/1/1969 قبل أن ينتقل المقاتلون إلى أغوار الأردن وإقليم العرقوب في جنوب لبنان… كان الرفيق جلال شريف وهو الاسم الحركي للوزير السابق بشارة مرهج في طليعة متخرجي الدورة الأولى، كما كان للرفيق طارق أحمد وهو الاسم الحركي لي شرف التخرّج من الدورة الثانية، لنؤسس مع كوكبة من القيادات وعلى رأسها الدكتور منيف الرزاز رحمه الله والدكتور عبد الوهاب الكيالي والدكتور زيد حيدر، وصلاح عمر العلي، والدكتور عزمي الجشي، والمقدم أحمد حجو والأستاذ أحمد المرعشلي وغيرهم جبهة عربية ترى أن فلسطين طريق الوحدة والوحدة طريق فلسطين.

-3-

فيما كانت أكثرية اللبنانيين تحتفل بحلول السنة الميلادية الجديدة ويستفيقون بعد سهرة اليوم الأخير من عام 1974، حملت لنا الأخبار من الطيبة القرية الحدودية في جنوب لبنان أنباء عن مواجهة استمرت لساعات بين قوة إسرائيلية متوغّلة في القرية مع عدد من أبناء القرية…

توقّعنا يومها أن بين المقاومين رفاقاً لنا شكلوا بإشراف عضو القيادة القطرية لحزب البعث المحامي خليل بركات، فرق دفاع ذاتي في القرى الأمامية كان شعارها إذا تخلت السلطة عن واجبها في الدفاع عن قرانا، فنحن أبناء هذه القرى سنقوم بذلك مهما كلف الامر …

بعد ساعات وصلتنا الأخبار المفصلة عما جرى في الطيبة وهي أن الرفاق الشهداء علي شرف الدين ونجليه عبد الله وفلاح، ومعهم المدرّس الشيوعي محمود قعيق، قد قاموا بمواجهة القوة الإسرائيلية المتوغلة في قريتهم… واشتبكوا معها، وأوقعوا في صفوفها قتلى وجرحى باعتراف المصادر الإسرائيلية ذاتها…

كانت تلك المواجهة في أواسط سبعينيات القرن الفائت، مع مواجهات سبقتها، وأخرى تلتها، على امتداد الشريط الحدودي من العرقوب حتى القطاع الأوسط إيذاناً بانطلاق المقاومة اللبنانية التي تحوّلت اليوم مع حزب الله إلى رقم صعب في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي.

-4-

في 1/1/2016، أتانا خبر غامض عن وفاة مطران القدس في المنفى هيلاريون كبوجي في مقر إقامته في الفاتيكان، فسارعنا الى الاتصال بمنزله في روما، وبالصديق غسان بن جدو صديقه الحميم للتأكد من خبر رحيل المطران الفدائي عن 92 عاماً…

حين تأكدنا من الخبر المحزن، قفزت الى الذاكرة فوراً صور لهذا المطران الذي لم يتوان أن ينقل السلاح للمقاومة في القدس والضفة الغربية بسيارته الخاصة، وبتنسيق مع أحد قادة المقاومة في حركة فتح المرحوم مصطفى عيسى أبو فراس الغربي والذي غادرنا الى الأبد قبل أيام، رحمه الله.

تذكرت على الفور اتصالي به لدعوته للمشاركة في افتتاح الملتقى العربي الدولي لحق العودة الذي انعقد في دمشق في الذكرى الستين للنكبة بالتعاون بين تحالف القوى الفلسطينية والمركز العربي الدولي للتواصل والتضامن في خريف عام 2008.. وكيف تجاوب المطران الجليل وألقى كلمة مؤثرة في افتتاح الملتقى والذي كان من أبرز المشاركين فيه الرئيس الماليزي مهاتير محمد…

في ذلك الملتقى، كان الجميع مسكوناً بمأساة الحصار على قطاع غزة، وكان قرار بإرسال سفن لكسر الحصار… وكان ردّ فعل المطران الفوري هو: إذا نظمتم رحلة كهذه، أرجو أن تحسبوا حسابي، فأنا مشتاق لأرض فلسطين…

لم نخيّب ظنّ المطران الفدائي، فما ان باشرنا في لجنة المبادرة الوطنية لكسر الحصار على قطاع غزة وعلى رأسها المناضل الدكتور هاني سليمان عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي، والعضو المؤسس في تجمّع اللجان والروابط الشعبية في التحضير لانطلاق سفينة الأخوّة اللبنانية لكسر الحصار من ميناء طرابلس وبعد مشاركة العديد من الخيّرين من أهل عاصمة الشمال وعلى رأسهم مفتي طرابلس الشيخ مالك الشعار، والشيخ بلال شعبان، ورئيس المنتدى القومي العربي في الشمال الدينامو فيصل درنيقة وأمين عام تيار الفجر عبد الله ترياقي، جرى الاتصال بالمطران كبوجي الذي حضر في الموعد المحدّد ومعه مبلغ 3 آلاف دولار مساهمة في تكاليف المبادرة التي تعتمد، كغيرها من مبادراتنا على دعم الشرفاء من أبناء الأمة…

وحين عاد كبوجي ورفاقه من الاحتجاز الاسرائيلي في ميناء أشدود، بعد ضغوط من الدولة اللبنانية والمقاومة، وخصوصاً من الرئيس نبيه بري الذي أصرّ أن يكون كبوجي أول المفرج عنهم، كانت كلمة المطران الأولى لنا، إذا كنتم ستحضرون لرحلة ثانية لكسر الحصار فأنا مستعدّ لأكون فيها… وهكذا كانت مشاركته في سفينة مرمرة في أسطول الحرية مع المناضلين هاني سليمان ونبيل حلاق وأبو محمد شكر من البعثة اللبنانية لتبقى صورته، وهو يحمل الإنجيل مصلياً صلاة الفجر مع رفاق الرحلة، خالدة في الأذهان ومعبّرة عن وحدة الأمة من أجل فلسطين القضية العابرة للطوائف والمذاهب والعصبيات…

كان رحمه الله يفاخر انّ روح الفدائي التي تسكنه منذ عام 1967 ما تزال حاضرة فيه رغم بلوغه سن السادسة والثمانين من العمر، وكانت سيرة الشيخ الشهيد عز الدين القسّام حاضرة دائماً في أحاديثه، فإذا كان القسّام إبن الساحل السوري ذهب ليستشهد في فلسطين في ثلاثينيات القرن الفائت. فكبوجي إبن الداخل السوري جاهز ليُستشهد في فلسطين أيضاً من اجل الإنسان والإرض والمقدسات….

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى