الأهمّ للبنان ولاقتصاده أن تولد الحكومة… أمّا الأهمّ للسياسة فتفاصيلها
د. فريد البستاني
لا بدّ من أن يعرف اللبنانيون أنّ للبنان خصوصيات يجب أن تفرض ذاتها في مقاربة استحقاقاته السياسيّة والدستورية، ففي أغلب بلاد العالم، حيث يرتكز الإقتصاد على قطاعات إنتاجية كبرى، تقف حدود تأثير المؤسسات السياسية والدستورية ووجودها أو تعرقلها، على الحركة الإقتصادية عند نسب ضئيلة، لأنّ الإنفاق الحكومي في الاقتصاد محدود، والقطاعات الإنتاجية تدور عجلتها بلا توقف، والمؤسسات الإدارية للدولة تؤدّي خدماتها التقليدية لحساب الاقتصاد، والقلق الوجودي الذي يكبح الإستثمار غير موجود، أما في لبنان فالعكس هو القائم، حيث القطاعات الإنتاجية ضعيفة بحجم تأثيرها الإقتصادي، والقطاعات الكبرى التي تحرّك عجلة الإقتصاد تتوزّع بين ما تنفقه الدولة وتضخّه في شرايين الدورة الإقتصادية، وبين القطاعات التي توصف بالجبانة، كالإستثمارات العقارية والإستهلاكية والخدماتية، وهي ترتبط مباشرة بالثقة التي يؤمّنها الإستقرار السياسي.
يهتمّ الإقتصاديون في بلاد العالم بمضمون البرامج الإقتصادية للحكومات، ونظرتها للضرائب والإعفاءات والحوافز، لأنّ لهذه العناصر دوراً مفصلياً في هيكلة القطاعات الإقتصادية وتوليد الفرص الإستثمارية، بينما يدرك اللبنانيون استحالة حدوث مفاجآت في البرامج الحكومية على هذا الصعيد، فمثل هذه التحوّلات الكبرى تحتاج وفاقاً وطنياً أكبر من حجم القرارات الحكومية التقليدية.
لذلك ينتظر اللبنانيون من حكوماتهم ثلاثة أشياء لكي يشعروا بنوع من الإطمئنان.
أوّلاً مبدأ وجود الحكومة، ثانياً، درجة كفاءة الوزراء في الإمساك بملفات وزاراتهم وإدراكهم لمتطلباتها، بالمعنى التقني والقانوني والإداري، وبذلهم وقتاً وجهداً لتحسين الأداء الوظيفي فيها، وثالثاً مستوى النزاهة التي يوحي بها الوزراء ودرجة الثقة بابتعادهم عن الممارسات القائمة على المحسوبية في التعيينات والتوظيف، والمحاصصة في التلزيمات والصفقات على حساب الكفاءة والمعايير الفنية والكلفة المالية وجدواها.
ويبقى الأهم ان توجد الحكومة اذ إنّ مجرد وجود حكومة في لبنان يوحي بأن لا أزمات كبرى على الصعيد السياسي، ويمنح الإقتصاد جرعة من التفاؤل والثقة، فيفرج أصحاب الأموال عن أموالهم نحو الأسواق، وينطلق الناس نحو الإنفاق، وتطلق الدولة أموالها في شرايين الدورة الإقتصادية، عبر التلزيمات والمشاريع، فيتراجع الإنكماش والركود والجمود، ولأنّ الإقتصاد دورات مترابطة، فإنّ كلّ المهن تتحرك بفعل هذا النشاط المرتبط بالثقة.
إنّ غياب الحكومة يكبّد اللبنانيين خسائر هائلة على سبيل المثال، وبالرغم من غياب المراجع الإحصائية الدقيقة في لبنان، وتحوّل الرقم في كثير من الأحيان إلى وجهة نظر، يمكن الإكتفاء بثلاثة نماذج عن الخسائر، الأول هو ما تقوله تجمعات رجال الأعمال اللبنانيين عن أنّ كلّ شهر تأخير بولادة الحكومة قد رتب تراجعاً بنقطة نمو تعادل 400 مليون دولار خسرها الإقتصاد، أيّ ما يقارب الثلاثة مليارات دولار حتى اليوم، والثاني هو المؤشر الإقتصادي العام لدى مصرف لبنان، الذي سجّل في تشرين الثاني من العام الماضي تراجعاً بنسبة 8 عن ذات التاريخ في العام 2017، بدلاً من تحقيق نسبة نمو بين 2 و 3 ، ما يعني تراجعاً فعليّاً يزيد عن 10 وهو ما يمثل قرابة الخمسة مليارات دولار، والثالث هو تراجع التصنيف الإئتماني للبنان لدى مؤسسة موديز من مستقر إلى سلبي، وهو ما رتب بصورة مباشرة أو غير مباشرة ارتفاعاً في أسعار الفائدة بكلفة إضافية تقدّر حسب مصادر مصرفية بملياري دولار عن الفترة المنقضية بدون وجود حكومة، وهو ما اعتبرته موديز السبب الرئيسي لتعديل تصنيف لبنان، وإذا أضفنا إلى هذه المؤشرات، التراجع الذي بلغ حداً موجعاً في السياحة والجمود الكبير في قطاع العقارات، والتراجع الإستهلاكي في كلّ المجالات، يمكننا القول إنّ كلفة التأخر بتشكيل الحكومة تقارب العشرة مليارات دولار، وهي كلفة ستتصاعد بمتوالية هندسية بعدما ظهرت الأزمة الحكومية كأزمة مستعصية، وفوق كلّ ذلك تتراجع ثقة الجهات الدولية في مؤتمر سيدر ، وبدأ بعضها يتحدث عن إعادة النظر بالتزاماته إذا استمرّ التعثر اللبناني، وبعضها الآخر يشكك بقدرة لبنان القيام بالإلتزامات التي نصّت عليها مقرّرات سيدر في ضوء ما أظهره الوضع السياسي من تعقيدات، وهنا ندخل في خسائر من نوع آخر، هي خسارة الفرص وتقديرها بالأرقام يفوق التصوّر وأكبر من أن يُحصى، لأنّ هذه الفرص تشكل آمالاً يحتاجها الاقتصاد لاستعادة الحياة، وفوق كلّ هذه السلبيات تأتي النتائج المتفاقمة لأكلاف ملف النازحين السوريين ووقف الإنفاق في مؤسسة الأونروا على اللاجئين الفلسطنيين، وهي مشاكل تحتاج حكومة لمواجهتها والتعاون مع المجتمع الدولي للمضيّ بحلول فاعلة وعاجلة لها، وكلفة النازحين وحدها وفق البنك الدولي تقدّر بمليار ونصف مليار دولار سنوياً على لبنان، والخطير هو ما بدأت تظهر ملامحه من إقفال مؤسسات وإعلان إفلاسها، وما تسجله المقاصة بين المصارف من تزايد في الشيكات المرتجعة، وبالتالي دخول المؤسسات الإقتصادية مرحلة الخطر الحقيقي، عدا عن المشاكل الكبرى في المالية العامة، والتي باتت تطلّ علينا نتائجها بشكل منتظم مع كلّ استحقاق لتمويل شراء الفيول لكهرباء لبنان، أو استحقاق دفع الرواتب لموظفي الدولة، أو ما نشهده من مخاوف من أكلاف سلسلة الرتب والرواتب.
لأنّ كلّ شيء يقول إننا ذاهبون إلى الانتحار لا بدّ من رفع الصوت عالياً للفت النظر والتنبيه من بلوغ الأسوأ، حيث لا ينفع الندم.
إنّ التناقض بين النظرة السياسية للحكومة والنظرة الإقتصادية نحوها يجب أن يلقى اهتمام المسؤولين السياسيين، حيث يشكل اهتمامهم بتفاصيل الحكومة وتوازناتها وحصص الأطراف السياسية منها، ونوعية الحقائب الخدماتية والسيادية ولمن تعود طائفياً وسياسياً، الأولوية عند السياسيين، وهم يفعلون ذلك لقناعتهم بأنهم بتمسكهم بشروط تتصل بهذه العناصر يعبّرون عن مصالح ناخبيهم الذين منحوهم التفويض عبر الانتخابات، لكن الحقيقة التي يجب أن ينتبه لها السياسيون، هي أنّ الزمن الذي ينفقونه في التفاهم على تشكيل الحكومة له كلفة عالية على الاقتصاد الذي ترتبط به مصالح ناخبيهم مباشرة، ويدفعونها من نمط حياتهم كلّ يوم، وصوت أنينهم وشكواهم يرتفع، ما يستدعي بعد مرور كلّ هذا الوقت الضائع في مفاوضات تشكيل الحكومة، أن تنخفض السقوف السياسية للجميع بما يتيح تلاقيها في نقطة وسط تتيح الولادة السريعة للحكومة، لأنّ الإقتصاد يدخل المراحل الحرجة والخطرة، وبات يستحق أن تتطابق أولوية السياسة والإقتصاد، ويكون العنوان، أولوية أن تكون لنا حكومة اليوم قبل الغد…
نائب في البرلمان اللبناني