قطاع غزة بين غدر «الأهل والأشقاء» وسكين «إسرائيل»
د. وفيق إبراهيم
يتعرّض قطاع غزة في فلسطين المحتلة لأعنف حملة متعدّدة المصادر ترمي إلى القضاء على مقاومته المسلحة التي لا تزال تشكل الرابط الأساسي المحوري بفلسطين التاريخية.
يجب الانتباه في هذا الصدد الى أنّ رئاسة محمود عباس للسلطة الفلسطينية نجحت في إخماد انتفاضات الفلسطينيين بذريعة انّ الحلّ السياسي لم يعُد بعيداً، وفشلت في دفع الكيان الغاصب الى القبول بمشروع الدولتين الفلسطينية واليهودية على أراضي فلسطين التاريخية، وما زاد الأمر سوءاً أنّ سلطة أبي مازن لم تتمكّن من وقف الاستيطان الإسرائيلي المتصاعد الذي التهم حتى الآن أكثر من عشرين في المئة من أراضي الضفة الغربية متمكناً أيضاً من تهويد القدس بوسائل عدة منها الاستيطان وشراء عقاراتها التاريخية والاعتراف الأميركي بيهوديتها الذي جذب بلداناً أخرى اعترفت بدورها وأرغمت العرب على الصمت خوفاً من غضب الرئيس الأميركي دونالد ترامب. هذا الرئيس الوحيد الذي تجرأ على إقرار هذا الاعتراف من دون أيّ اكتراث بردود فعل عربية وإسلامية.
ماذا بقي من فلسطين بعد هذا التراجع الخطير؟ الجواب عند أهل قطاع غزة الذين رفضوا الانجرار في مواكب السقوط مسجلين على رقعة أرض محاصرة ولا تتعدّى بضع مئات من الكيلومترات المربعة، أنبل مظاهر الجهاد في سبيل فلسطين بدمائهم وما يحوزون عليه من الضئيل من الممتلكات. غزة المحاصرة رفضت الاستسلام بقتال ضارٍ يزداد شراسة مع ازدياد الانهيار الفلسطيني العربي المترافق مع تصعيد الموقف الأميركي لناحية الانتهاء من ملف غزة.
وللمقاومة في غزة أهميات كبيرة واولها انها تمنع إلغاء قضية فلسطين وإلى الأبد.
فتحافظ بقتال اهلها الشجعان على حضور قضية احتلال معظم فلسطين وطرد أهلها منها واستيطانها من قبل يهود أتوا من بقاع العالم بدعم غربي كامل وخنوع عربي ليبنوا عليها الكيان الغاصب.
أما النقطة الثانية فهي في تأثيرها على أهالي الضفة الغربية وفلسطين 1948 ودفعهم لتأسيس مقاومات مماثلة في وجه العدو الإسرائيلي.
ولها قوة الحصول على تأييد شعبي عربي يضغط على حكوماته للوقوف الى جانب غزة كتعبير عن فلسطين بكاملها، وينسحب هذا التأثير على معظم العالم الاسلامي والدول الصديقة.
لكن ما قلص من قوة التأثير هي السلطة الفلسطينية «المهادنة» والمعترفة بـ»إسرائيل» والتي تنسق معها أمنياً وتفاوضها سياسياً.
وهذا ما يدفع الدول الاسلامية والصديقة الى التساؤل عن أسباب معاداتها لـ»إسرائيل» فيما اصحاب القضية يعترفون بها؟
ومع نجاح غزة بالصمود الذي يحول دون إغلاق ملف فلسطين وخسارة المشروع الأميركي الإسرائيلي في تفتيت سورية عادت السياسة الأميركية الى اسلوب مهاجمة القطاع الصامد من جهات ثلاث: الحصار الإسرائيلي المترافق مع غارات جوية وقصف وعمليات اغتيال ومنع لمرور المساعدات الغذائية وحركة انتقال الناس الى جانب تشدّد مصري يتسربل بادعاءات قانونية لا تخدم الا «إسرائيل» تتواكب مع اصرار من دولة «السيسي» على تسليم السلطة في القطاع لمحمود عباس «ابو مازن».
الملاحظ هنا أنها المرة الأولى التي تمنع فيها «إسرائيل» تحويلاً مالياً من «صديقتها» قطر موجهاً الى قطاع غزة، فهل حدث هذا المنع بتنسيق مسبق؟
الجهة الثانية هي السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية التي سعت عبر مفاوضات مع منظمة حماس برعاية مصرية في العاصمة القاهرة إلى تسلم كل مراكز الادارة في القطاع.
بالتزامن مع غارات يومية إسرائيلية وضغط مصري ميداني بتقنين حركة الانتقال من معبر رفح الفلسطيني المصري، ولأنّ هذه المفاوضات لم تنجح سحبت السلطة الفلسطينية رعايتها لمعبر رفح وأوقفت «إسرائيل» اموال قطر المحولة الى غزة.
ماذا عن الجهة الثالثة؟ انه التنسيق الأميركي مع مجموعة من الدول العربية التي يزورها حالياً كل من المستشار الرئاسي الأميركي بولتون ووزير الخارجية بومبيو في محاولة للتعويض عن خسارة بلديهما في سورية وتراجعه في العراق واليمن.
يتضمن المشروع الأميركي الجديد اهتماماً خاصاً بشرقي سورية وشمالها وقطاع غزة بما يؤدي الى توزيع المناطق السورية المذكورة بين تركيا والنصرة وبعض الكرد وقوات نخبة أوروبية وأميركية ومنظمة داعش عند الحدود السورية والعراق.
ولتعويض «إسرائيل» عن خسائرها يذهب المشروع الأميركي مجدداً نحو انشاء محور عربي متحالف عسكرياً وسياسياً يعادي إيران على قاعدة التحالف مع «إسرائيل» وهذا يتطلب القضاء على قطاع غزة المقاومة وإنتاج غزة جديدة على «المستوى الوطني والسياسي والمقاوم» تندرج في إطار دويلة فلسطينية مع اجزاء من الضفة وبشكل يتم فيه إغلاق ملف القضية الفلسطينية نهائياً. هنا يقترح بعض الأميركيين التعويض عن «المسكينة» «إسرائيل» لخسارتها اجزاء من الضفة بالاعتراف بالجولان السوري المحتل جزءاً لا يتجزأ من الكيان الغاصب والمحتل.
بداية ولمناقشة هذا المشروع الأميركي يمكن القول إنه يشبه صاحبه ترامب من حيث القدرة على الصراخ والعجز عن التطبيق.
فإذا كان «فلسطينيو السلطة» محتمين بـ»إسرائيل» ومصر فإن أهل الضفة لن يسكتوا وهم المعتادون على إنتاج تحرّكات ضخمة غاضبة لا تهدأ، وكذلك عرب 48 ومن دون نسيان الفلسطينيين في الشتات اللبناني والسوري والمصري والعالمي. وهذا ينسحب على حركة الشارع العربي الذي لن يرحم مشروعاً أميركياً مهزوماً يريد تجديد طروحاته بدماء الفلسطينيين واستهداف الداعم الوحيد لهم وهي إيران، ومحاولات ضرب حزب الله في لبنان.
ماذا عن روسيا وإيران؟ هذان بلدان تتقاطع أدوارهما الاستراتيجية مع تأييد حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية والسورية، لجهة طهران والنيل من المشروع الأميركي المتعثر كما ترى موسكو التي تريد الاستمرار في بناء دور عالمي لبلادها. وهذا لا يكون إلا بالمزيد من تقليص الهيمنة الأميركية على العالم في ميادين سورية والشرق الاوسط.
أما العرب فلن يتجرأوا على التوغّل عميقاً في موضوع إنهاء القضية الفلسطينية إلا بعد التمعّن في وزن المشروع الأميركي الجديد ومدى قابليته للنجاح.
صحيح أن بإمكان الأميركيين المراهنة على محمود عباس الراغب بالإمساك بكل السلطة في الضفة والقطاع وبالسيسي الراغب بتجديد ولايته الرئاسية مرة ثالثة وبولي العهد السعودي ابن سلمان المستسلم للأميركيين بسبب تغطيتهم له في عملية اغتياله للإعلامي الخاشقجي، لكنهم لن ينجحوا في المراهنة على الشعوب ومقاوماتها الذين كشفوا ان النفوذ الأميركي في الشرق الاوسط اوهن من خيوط العنكبوت، والدليل هي تلك الميادين المقاومة في جنوب لبنان وسورية والعراق واليمن وفلسطين.