الدين العام والمسؤولية السياسية

د. فريد البستاني

لا نكشف سراً عندما نعترف بأنّ حجم الدين العام في لبنان تخطى الحدود المسموح بها بالقياس لإجمالي حجم الدخل الوطني منذ زمن، فالخط الأحمر هو عدم تخطي نسبة الـ 100 بين الدين والدخل الوطني، وعندما يكون حجم الدين قد تخطى الـ80 مليار دولار وإجمالي الدخل الوطني دون الـ 50 مليار دولار يصير واضحاً معنى أننا مصنّفون لدى صندوق النقد الدولي بصفتنا الدولة الثالثة سلباً من حيث حجم الدين قياساً بالدخل الوطني، دون أن يغرينا كون اليابان الدولة الأولى ضمن خطة منهجية لتنمية الاقتصاد، وليس كتعبير عن العجز المالي، بينما يتقدّمنا اليونان وتتبعنا إيطاليا، كدولتين مأزومتين في إدارة الدين، ومن حسن حظ لبنان أنه يملك علامات إيجابية مقابلة تتيح له عدم الوقوع في الإنهيار والتماسك في التعامل مع ملف الدين العام، أبرزها إثنتان، الأولى هي أنّ حجم ودائع المصارف اللبنانية يفوق حجم الدين العام وحجم الاقتصاد مجتمعين بمرة ونصف برقم يوازي الـ 180 مليار دولار، والثانية هي أنّ احتياط المصرف المركزي من العملات الأجنبية يعادل وحده نصف الدين تقريباً ويقارب حجم الإنتاج الوطني الإجمالي.

من المهمّ لفت النظر إلى أنّ السياسة تلعب دوراً محورياً في نجاح لبنان بإدارة ملفه المالي عموماً وفي قلبه ملف الدين، والمقصود هنا ليست السياسة بمعناها الإجمالي الواسع فقط، لجهة خطط التنمية والنهوض الاقتصادي، وهي ذات تأثير في كلّ البلدان التي تضع خططاً لمواجهة علامات تأزم مالي في اقتصادها، وضعف في بنية موازنتها، بل المقصود من السياسة التي تخصّ لبنان هو الأداء السياسي الذي ينعكس على حال الثقة، التي تؤثر في الوضع المالي بإرادة أو دون إرادة السياسيين، لأنّ الاقتصاد اللبناني لا يملك قطاعاً إنتاجياً يمثل ركيزة الإقتصاد بالمقارنة مع دور التدفقات المالية من التحويلات والاستثمارات والودائع، ومع كلّ من قطاع الخدمات والإنفاق الاستهلاكي من جهة والإنفاق الحكومي من جهة مقابلة، وليس خافياً أننا في قلب أزمة سياسية قاسية تحتاج درجات عالية من الحذر والانتباه للحدّ من تاثيراتها على الوضع المالي.

الثقة هنا داخلية بما يتصل بالانكماش الناتج عن التعثر السياسي الذي صار أزمة مستعصية، لكنها خارجية أيضاً بما يتصل بالتصنيفات الإئتمانية، ودرجة الثقة بأهلية الإدارة السياسية على التعامل مع مفردات الوضع المالي، وليس صعباً على من يتابع التأثيرين الداخلي والخارجي للثقة، ملاحظة درجة المتابعة الحثيثة التي يبديها الخارج في قراءة الانكماش وتأثيراتها، ومواكبة الإدارة السياسية وتعاملها مع الوضع المالي، وقد ظهرت تصنيفات لبنان في حال تراجع بإشارة أولى مع مؤشر «موديز» الذي نقل تصنيف لبنان من مستقرّ إلى سلبي، بالربط مع حال التعثر الحكومي، والمؤشر يهتمّ بتصنيف الدول واقتصاداتها لجهة درجة الثقة بقدرتها على الوفاء بالتزاماتها، وهو أمر غاية في الحساسية والخطورة.

جاءت تصريحات وزير المالية علي حسن خليل حول هيكلة ثم جدولة الدين، لتصبّ الزيت على النار في سوق مالية عالمية تترقب الوضع في لبنان، بغضّ النظر عن النوايا، وما إذا كان لكلامه وظيفة سياسية أم كان مجرد اجتهاد متسرّع في التعاطي مع شأن مالي حساس، لأنّ استغراب الوزير لردود الفعل على تصريحه قد يصحّ عندما تكون ردة الفعل بمواقف وتصريحات داخلية، لكن يسقط مبرّر الاستغراب عندما يكون ردّ الفعل هو تعامل السوق نفسه، الذي سجل مؤشراً يستدعي التوقف، فالتصريح الأول لوزير المالية الذي تحدث عن العزم على هيكلة الديون، تسبّب بتراجع أسعار التأمين على السندات اللبنانية بالعملات الأجنبية المتداولة في الأسواق المالية العالمية 6 نقاط لكن الذي يدعو للاستغراب أن التصريح الثاني للوزير الذي أراد تطمين الأسواق بأنّ كلامه لا يقصد المساس بإلتزام الدولة اللبنانية بمسؤولياتها عن سداد ديونها والوفاء بمواعيد إستحقاقتها ويهدف لجدولة الديون، رتب انخفاضاً جديداً بمقدار 4 نقاط، فتسبّب بالقلق بدلاً من الإطمئنان، وهنا نتحدث عن سوق وليس عن مواقف سياسية أو حسابات تخضع للسيطرة.

في قاموس تجار السندات، إعادة الهيكلة أو إعادة الجدولة هما مؤشّر واضح على مستوى الأزمة التي يعيشها لبنان، والتي تستدعي القيام بإجراءين يعكسان مساراً إفلاسياً للدولة ويرفعان من احتمالات التخلّف عن السداد، وتعني بين احتمالي إعادة الهيكلة والجدولة فرضية القلق من مصادرة الدولة لنسبة من قيمة السندات لتخفيف مديونيتها كما حالات إعادة الهيكلة المعروفة، وتسبّب في حالات إعادة الجدولة قلقاً آخر بأن تفرض الدولة على حاملي السندات تجديداً قسرياً في اكتتاباتهم على فترات طويلة، وكلّ من الحالتين تعني دخول لبنان في سباق مع الإفلاس وهو مؤشر سيّئ وخطير، يؤكد وزير المالية أنه لم يكن مقصده، لكن في المال تحسب السياسة بالنتائج لا بالنوايا، فلينتبه أهل السياسة لكلماتهم، فيكفي أنّ الأفعال لم تترك أثراً إيجابياً يحق للبنانيين أن ينعموا به عبر تسريع ولادة الحكومة الموعودة لتصدر الموازنة العامة في موعدها ومن حكومة أصيلة فاعلة وتطمئن الأسواق وتفرج عن النشاط في الحركة الإقتصادية، فلتنضبط الأقوال مع مقتضيات الحذر وروح المسؤولية، وكما يقول الشاعر العربي الكبير أبو الطيب المتنبي «لا خيل عندك تهديها ولا مال… فليسعد النطق إنْ لم يسعد الحال».

نائب في البرلمان اللبناني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى