لغم الماركسية

د. قصي الحسين

وراء وهم «الحقيقة»، يحث الكاتب عماد منذر خطاه في مؤلفه: «الحقيقة بين النسبية والإطلاق والحقول والمنظومات»: الدار التقدمية 334 ص . فهو يرى، أنّ حقيقة الوجود، إنما تنهض على ثلاثة مبادئ أساسية هي: الحركة والتطوّر والتغيير. غير أنّ ما يجعل هذة الحقيقة «وهماً» لا يمكن الإمساك به، هو تقاطعه مع الجدالية من جهة، ومع النسبية والإطلاق عبر الزمن، من جهة أخرى. وأنّ الماركسية حاولت الإفادة من هذا القانون، فكان نصيبها التحجّر والتخلف والتقوقع. وهذا ما جعل الجدالية تتراجع، أمام انعدام الواقعية والموضوعية، وفقدان الرؤية الشمولية. مما أضرّ بها، فغلبت عليها الشروحات والتفسيرات الذاتية والإفتراضية، والمقولات الإيديولوجية الواهنة.

كان لا بدّ للباحث منذر، والحالة هذة، أن ينصرف للبحث عن الجذور والأسس، ليقف على ما أصابها من تشوّهات وإنحرافات. فوجد نفسه يسعى وراء وهم الحقيقة في الماركسية. ذلك أنها فقدت قدرتها على التفاعل مع حركة المجتمع عبر الأزمنة كلها. فلا الجدالية كانت كافية ولا الماركسية كانت وافية، مما جعل التطوّر الفكري الحقيقي، يصطدم بهذا الجدال المادي التاريخي، الذي أفشل الإيدولوجيا، وشوّه مسيرتها الواقعية والأكاديمية.

لا يجادل الباحث عماد منذر، في أنّ الماركسية، كانت قد احتلت أعلى درجات الاهتمام، وأعلى درجات القراءة الفلسفية. غير أنه يؤكد أنها ظهرت، وفي وجهها بعض التشوّهات. ذلك أنّ أجزاءها الثلاث: الفلسفة والإقتصاد والشيوعية الحتمية، ارتكزت إلى المادية الجدالية والمادية التاريخية. فكان سقوطها المدوّي في التأويل. وسقط الاقتصاد أيضاً بالتراجع، وسقطت الشيوعية بالسلبية والتخلف.

قدّم الباحث لنا الماركسية بأجزائها ومفاهيمها. ولكنه سرعان ما اصطدم بالنقاش الذي دار حول أولوية المادة أم الوعي بها. وحول الرؤية التي تقول بتلازمهما الحتمي. وعنده أنّ التفريق بين الرؤية المادية للوجود، والرؤية المادية للمجتمع، قد أصاب أيضاً الحركات اليسارية والحركات التقدّمية في صميمها جميعاً. فجعلها تتخلف عن وضع قوانين مادية لحركة المجتمع، وصيرورة مسيرته وحتمية تحوّلاته. وذلك من خلال المواجهة مع الفئات الدينية والفئات البورجوازية، والفئات المثقفة، وبعض الفئات الثورية الأخرى.

وتحت عنوان: الماركسية ومسألة التبديل والتفسير ص 63 ، يتساءل الباحث، عما إذا كان مسار التطور هو حتمي وطبيعي. وعما إذا كانت نظرة الماديين والمثاليين إلى ذلك، موحدة. فهو يرى أنّ النخب والقيادات قد سقطت أمام التاريخ وأمام شعوبها. وأنّ الجواب على ذلك يكون بالديمقراطية داخل الأحزاب نفسها، ومن خلال علاقاتها مع محيطها وجماهيرها.

فالماركسية تعيش لغمها الحقيقي، لأنّ حركة العالم ووحدته وأسرار الوعي به، إنما جعل الدلالة على الحقيقة، صعبة المنال. فلم يعد الحديث ينفع عن حركة المادة ولا عن السكون والتوازن، ولا عن المادة والطاقة والكتلة. فللوعي أسراره وعناصره. وهو يقود حتماً إلى وعي الوعي. وإلى التمييز بين الكلام والتفكير والفكر ص 126 .

بالإضافة إلى ذلك، يجد الباحث عماد منذر، أنّ الماركسية بأجزائها والقوانين المادية المتحكمة بها، وخصوصاً قانون النسبية، أو قانون السبب والنتيجة ص 148 ، وقانون الضرورة والمصادفة ص 180 ، إنما جعل ذلك كله، إمكانية المصالحة مع مفهوم الماركسية القائم على الجدالية التاريخية والجدالية المادية صعبة التحقيق. نراه يقول: «بعد تقسيم الحتمية والعشوائية إلى ضرورة وصدفة، يلجأ الماركسيون إلى تجزئتها، إلى إمكانية وإستحالة» ص 186 . ولهذا يجد الباحث أنهم يدورون في حلقة مفرغة، بملء إرادتهم ولمصلحتهم الفكرية، من التحوّل إلى صدفة وإلى عشوائية.

إلى ذلك، فإنّ لغم الماركسية، إنما هو قائم في قانون الإنتقال من التبدّلات الكمية، إلى التبدلات النوعية. فالماركسيون يركزون على ثلاثة قوانين مادية:

1 – تحوّل التراكم الكمّي، إلى تراكم نوعي.

2 – وحدة وتناقض الأضداد معاً في آن.

3 – قانون النفي. وقانون نفي النفي.

وهذا لمما يجعل الفكر الإنساني منشطراً، بين مادية متطرفة، ومثالية شديدة التحجّر. فتدخل الماركسية سجن الذات، ويغلب على الناس التعصّب والتحزب. ويسود اللامنطق، وتغلب اللاجدالية ص 255 .

من جهة أخرى، فإنّ الباحث يتحدث عن الحقيقة الموضوعية، المطلقة والنسبية ص 288 . فيقول متسائلاً: إنّ الحواس، هي عنصر كشف الحقائق، أم الدماغ هو الأساس. وبناء عليه، فإنّ الفرق بينهما سيكون جوهرياً ونوعياً. ولهذا يهرب الماركسيون إلى رؤية الحقائق ضمن الزمان والمكان. مما يوقع في المحدودية وقلة الموضوعية ورقة الجدالية. على الرغم من الادّعاء، بأنّ الماركسيين هم آباء الجدالية، وأنّ الماركسية هي أمها. وهذا هو اللغم الحقيقي الذي يعيش فيه الماركسيون في برهة النقاش الساخنة، حول هذا الموضوع.

ويبسط الباحث عماد منذر أخيراً، حديثاً طويلاً، في مواضيع ومفاهيم عامة، مثل الجوهر والظاهرة والتأمّل والتفكير والممارسة. إلى جانب رؤيته الخاصة في المجرد والمحسوس والمنطقي والتاريخي، وصولاً إلى الخاص والعام ص 326 ، فيرى أنّ أساليب التفكير من جهة وأسباب الممارسة والمعرفة من جهة أخرى، إنما تفسّر لنا جميعها، عجز الماركسية، ومعها المادية التاريخية، عن النجاة من السقوط في اللغم، أو الفخ، الذي صنعته الماركسية نفسها بنفسها، للماركسيين والماديين والتاريخيين، في نقاشاتهم الباردة، أو الساخنة، على حدّ سواء.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى