«ذي إنترسبت»: الصحف الأميركية تتحيّز دائماً لـ «إسرائيل» ضدّ فلسطين

لعناوين الأخبار أهميةٌ كبيرة. إذ أظهرت الدراسات مراراً وتكراراً أنَّ الكلمات المكتوبة في أعلى المقال لها نفس أهمية نص المقال نفسه، إن لم تكن أكثر أهميةً في عيون العامة، وهو الأمر الذي يُثير استياء الكثير من الكُتَّاب.

وهذه الأهمية لها استخدامها في حالة الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي، إذ يوضح تقريرٌ نشره موقع «ذي إنترسبت» أنَّ الصحف الأميركية نشرت الكثير من عناوين الأخبار غير الملائمة والمُضلِّلة والمُنحازة، مثل تلك التي ظهرت على صفحات «نيويورك تايمز» خلال الحرب بين الجيش الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة عام 2014.

فبحسب «ذي إنترسبت»، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية حينها مقالاً بعنوان: «إسرائيل تقول إنَّ حماس تستخدم دروعاً بشرية مثيرةً الجدل السابق حول المسألة»، في إشارةٍ واضحةٍ لمئات المدنيين الفلسطينيين الذين قُتِلوا جرَّاء الهجمات الإسرائيلية في ذلك الوقت من الحرب. ويرى الموقع أنَّه رغم وضوح هوية القاتل، لكن اللغة المُستخدمة في المقال حوَّلت الأمر إلى موضع «جدلٍ» حول المسؤول الحقيقي.

وقبل ذلك ببضعة أسابيع، كتبت الصحيفة عنواناً سخيفاً آخر: «صاروخٌ ضُرِب على مقهى مجاورٍ للبحر في غزة يجد في طريقه مُشجِّعي كأس العالم لكرة القدم»، في أعقاب ضربةٍ جويةٍ إسرائيلية قتلت مُشجِّعي كرة قدم فلسطينيين، لتُعدِّل العنوان لاحقاً إثر تعرُّضها لموجة انتقاداتٍ واسعةٍ عبر الشبكات الاجتماعية.

هذه العناوين توضح وجود تحيُّزٍ واضح لوجهة النظر الإسرائيلية في الصُحف الأميركية أثناء تغطيتها الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني خلال السنوات الماضية. ووفقاً لتقرير «ذي إنترسبت»، هذا ما استنتجته بالفعل دراسة «50 عاماً من الاحتلال» التي نشرتها شركة «416 لابس» للأبحاث وتحليل البيانات في كندا.

حلَّلت الشركة نحو 100 ألف عنوان حول الصراع في الصحافة الأميركية على مدار العقود الخمسة الماضية، ووجدت أنَّ وجهة النظر الإسرائيلية ظهرت أكثر من الفلسطينية بكثير، وتناقصت الإشارات إلى تجارب «اللاجئين» أو من يعيشون في ظلّ «الاحتلال» من الفلسطينيين، وفقاً لما أفاد به الموقع.

وقال عُويس زهير، أحد مُؤلِّفي الدراسة، في تصريحه لموقع «ذي إنترسبت»: «تُظهر نتائج الدراسة تحيُّزاً مستمراً في تغطية الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، إذ تحظى الروايات الإسرائيلية بالأفضلية، في حين اختفت المواضيع المُتَّصلة بواقع الحياة اليومية للفلسطينيين رغم استمرار اعتداءات الاحتلال. وهذا يوضح الحاجة لتقييم نطاق تغطية الاحتلال الإسرائيلي تقييماً أكثر دقة، والاعتراف بأنَّ القُرَّاء يحصلون في أفضل الأحوال على روايةٍ منقحة للغاية عن القضية».

ويُشير الموقع إلى أنَّ الدراسة التي صدرت هذا الأسبوع حلَّلت 50 عاماً من عناوين الأخبار عن صراع «إسرائيل» وفلسطين في خمس صُحفٍ أميركيةٍ كُبرى، وهي «شيكاغو تريبيون» و«لوس أنجلوس تايمز» و«نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«وول ستريت جورنال»، باستخدام تقنيات مُعالجة اللغات الطبيعية في تحليل العناوين المنشورة طوال تلك الفترة، للتعرُّف على الاتجاهات والأنماط الإحصائية في تلك النصوص الضخمة.

تعرَّف الباحثون بحسب الموقع على عشرات المُصطلحات التي تكرّرت باستمرار في الأخبار المنشورة عن «إسرائيل» وفلسطين. ورغم إجراء دراساتٍ عن تغطية الصحافة للقضية الإسرائيلية الفلسطينية في السابق، لكنّ تحليل شركة «416 لابس» يُقدّم النظرة الأكبر والأكثر شمولاً على عناوين الصحافة الأميركية منذ اندلاع الصراع.

ويرى «ذي إنترسبت» أنّ الأنماط التي كشفتها الدراسة تُظهِر ميلاً واضحاً تجاه وجهة النظر الإسرائيلية. فالعناوين مثل عنوان الخبر الذي نشرته «نيويورك تايمز» عام 2014 عن مصرع المدنيين في غزة، والتي تبدأ بـ«إسرائيل تقول»، تظهر أكثر بمرتين ونصف من العناوين التي تستشهد بالمصادر الفلسطينية. والعناوين التي تُركِّز على الإسرائيليين تُنشَر أكثر بأربعة مراتٍ من العناوين التي تدور حول الفلسطينيين، في حين ظهرت الكلمات التي تَدُلُّ على العنف مثل «الإرهاب» أكثر بثلاث مرات من كلمة «احتلال». وانخفض استخدام مصطلح «احتلال» بنسبة 85 في العناوين التي تتطرَّق لذكر إسرائيل منذ عام 1967، حين سيطر الجيش الإسرائيلي على الضفة الغربية، رغم حقيقة زيادة وتيرة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ ذلك الحين. وانخفض ذكر مصطلح «اللاجئين الفلسطينيين» في الوقت نفسه بنسبة 93 . وذلك التفاوت الدقيق المتواصل في عناوين المقالات، والذي يمنح تغطيةً أكبر لطرفٍ واحدٍ ويتجاهل قضايا أساسية بعينها، يُمكن أن يُؤثِّر على الإدراك العام.

ووجدت الدراسة أيضاً بحسب الموقع أنَّ اهتمام الصحف بالصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني داخل الولايات المتحدة يبلغ ذروته خلال فترات العُنف المتزايد، وهذه الديناميكية تعكس كيفية تغطية الأخبار العالمية عامةً داخل الولايات المتحدة. لكنَّ الفارق الوحيد هنا هو أنّ حكومة الولايات المتحدة تُؤدِّي دوراً حيوياً في الحفاظ على الوضع الراهن للقضية الفلسطينية من خلال تقديم مساعداتٍ عسكريةٍ ودعمٍ دبلوماسيٍ ضخمٍ للحكومة «الإسرائيلية».

وتشير «ذي إنترسبت» إلى أنَّه رغم استمرار التدخُّل الأميركي في القضية، انخفض حجم التغــطية الصحافية الأميركية للصراع بشكلٍ عام منذ معاهدة أوسلو عام 1993، وهي اتفاقية السلام التي تفاوض عليها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين.

ولا يعكس ذلك الانخفاض الأوضاع الحقيقية على الأرض من وجهة نظر الموقع. فبصيص الأمل الذي خلقته معاهدة أوسلو قُتِلَ فعلياً بعد مقتل رابين على يد مُتشدِّدٍ إسرائيليٍ عام 1995، فضلاً عن موجة الهجمات التي نفذتها حركة حماس التي كانت مغمورةً آنذاك في أعقاب ذلك وقتلت أعداداً كبيرةً من الإسرائيليين. واستغلّ الزعيم الإسرائيلي المُتشدِّد بنيامين نتنياهو موجة خيبة الأمل تلك ليستحوذ على السلطة عام 1996. ومنذ ذلك الحين، توسَّع الاحتلال العسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية، والتهمت المستوطنات الجديدة المناطق المتبقية تحت سيطرة الفلسطينيين، بالتزامن مع تضاؤل اهتمام وسائل الإعلام العالمية بالقضية.

وتشدَّدت الإدارة الأميركية الحالية منذ وصولها إلى السلطة في موقفها لصالح الحكومة الإسرائيلية. إذ خفضت المساعدات الإنسانية للاجئين الفلسطينيين، واعترفت من جانبٍ واحد بمدينة القدس عاصمةً لإسرائيل.

اتخذَت الولايات المتحدة تلك التدابير رغم اعتراضات القادة الفلسطينيين وتحذيرات بعض المسؤولين العسكريين الإسرائيليين البارزين من أنَّها قد تُزعزع استقرار المنطقة. ولا يبدو أنَّ مُحادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين ستستمر قريباً حسبما ترى «ذي إنترسبت»، رغم الوعود المُتكرِّرة من طرف جاريد كوشنر، كبير مستشاري دونالد ترامب وصهره، بشأن «الصفقة الكبرى» التي ستَحُلُّ الصراع.

لكن مؤخراً طرأت بعض التغييرات البارزة على تغطية الصحافة الأميركية للصراع رغم الواقع السياسي المُظلم، ويرجع موقع «ذي إنترسبت» تلك التغييرات جزئياً إلى الضغط الشعبي من الشبكات الاجتماعية. ويشير الموقع إلى وجود مؤشراتٍ أيضاً على تحوُّل إسرائيل إلى قضيةٍ حزبيةٍ ينقسم حولها الليبراليون والمُحافظون داخل الولايات المتحدة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي تزايداً في أعداد الأميركيين الذين يُريدون أن تتخذ حكومتهم موقفاً أكثر إنصافاً حيال الصراع.

لكنَّ سياسة الحكومة الأميركية لم تعكس تلك التحوُّلات في الرأي العام حتى الآن، وخاصةً في ظلّ اندفاع إدارة ترامب لاتخاذ موقفٍ عدائيٍ ومُتصلِّب بشكلٍ غير مسبوقٍ تجاه المطالب الفلسطينية. وحوَّل أنصار الحكومة الإسرائيلية المُتشدِّدين في الولايات المتحدة منهجهم من «الاستحواذ على القلوب والعقول» بحسب تعبير الموقع إلى عقاب مُعارضيهم، عن طريق نشر قوائمَ سوداء للنشطاء الفلسطينيين، وفرض رقابةٍ على الشخصيات العامة التي تتحدَّث عن الصراع، والدعوة إلى فرض قوانينَ تحظر مقاطعة المنتجات الإسرائيلية.

وأشار الموقع إلى أنَّ مُتابعي الجدل الأميركي الدائر حول الصراع على مدار عقودٍ يتحدثون حالياً عن وجود تغييراتٍ هيكليةٍ جادةٍ على مستوى الرأي العام الأميركي في وسائل الإعلام والأوساط الشعبية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى