سورية هي الفجوة الأكبر في مؤتمرنا
جبران باسيل
ما أحوجنا اليوم لاستفاقةٍ سياسية اقتصادية تنمويّة تنشلنا من سُباتنا وترفعُ من قيمةِ الإنسان العربي لتعيد له ثقته بذاته وترتقي بحياته لمستويات يستحقها، لأن لا هدف يعلو على الإنسان، ولا شيء أغلى من حياة وعزةِ أهلنا ومواطنينا.
نحن نواجه تحديات كبيرة تبدأ من الحروب في سورية واليمن والعراق وليبيا ، وسوء التغذية في الصومال والسودان ، والفقر في معظم بلداننا بالرغم من غناها، والجهل للحياة العصرية بالرغم من عِلمنا، إضافة الى التعصّب والتطرّف والإرهاب، ناهيك عن تعنيف المرأة وعدم منحها حقوقها الأساسية، وتعنيف الطفل الذي لا زلنا لا نفقه بكامل حقوقه. مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية كثيرة ونحن مسؤولون عن تعاظمِها، لأنه بدَل تكاتُفِنا لحلّها ترانا نختلف أكثرَ لتكبرَ أكثر، وبدلَ التضامن لنخفِّفَ آثارها ترانا نشنّ الحروب على بعضنا ليشتدّ بؤسَها.
والنتيجة هي ضربُ إنسانِنا، أغلى ما عندنا تهجيرٌ ونزوحٌ ولجوءٌ للملايين من ناسِنا، فنراها هائمة، ضائعة ومشرّدة في أصقاع الأرض، كمن أخذ حفنة من تراب الأرض وهي من ذهب ونثرها فوق الأرض. هذا ما أصاب السوري واليمني واللبناني والفلسطيني والعراقي والليبي وغيره، يقفز على أوّل قارب نجاةٍ، أو موتٍ، يبحر فيه في مغامرةٍ أسوأُ ما فيها هوَ أفضلُ من واقعِ حياته. وها هو اللبناني رائدٌ في الهجرة، حوّلَها إلى قصة نجاح ليعيل من بقيَ من أهلِه، فلَحِقنا بمن بقي وزِدنا على بؤسِه بؤس اللاجئ الفلسطيني والنازح السوري ليزيد بؤسَهم جميعاً.
حصل هذا في ظلّ الاحتلال والاستعباد، فهل يجوز أن يحصل أيضاً في ظلّ الاستقلال والحكم الوطني، وأيّ حكم وطني هذا الذي يفضّل الأجنبي على الوطني ويُبدّي الغريب على القريب ويهجّر شعبه ليستبدلَه بآخر؟
نعم، لقد فشلنا في تحقيق ما تصبو إليه شعوبنا، أو أقلّه في إبقائها في أوطانها، أو على الأقلّ في إعادتها إليها، ولا زلنا لا نُبدي الحسّ مع بعضِنا ولا التضامنَ في حلِّ مشكلةٍ أو مشاكلَ سبّبها بعضُنا لبعضِنا الآخر، دون أن يحملَ هذا البعض هَمَّ التفكيرِ حتّى بحلِّها، بل يكتفي بكلامٍ جميلٍ غيرَ مصحوبٍ بعملٍ جميل.
لم نحترم تجاه بعضِنا مبدأ تقاسم الأعباء ولا حتّى فكرة تقاسم الهموم، بل رَمَينا مشاكلَنا على بعضِنا، بل أكثر، رَمينا مشاكِلَنا على شعوبِنا في الداخل وحرمناهم من نِعَمِنا أعطيناه موارِدنا ومالَنا في مقابل تسليح لنقتل بعضَنا بدل َحمايةِ أوطاننا في وجهِ عدوّنا.
لست هنا لإلقاء اللوم على بعضِنا، بل للتأمّل سوياً والتساؤل: ألم يحن الوقت بعد لصحوةِ ضمير، لاستفاقةِ مشاعر، ولإحياء روح التضامن؟ دون ان أُغفل من أعطى وأكرم وساعد وضحّى وبذل حتّى دماً في سبيل أخيه.
وإذا كان لا سبيل بعد لهذه الصحوة السياسية أن تحصل على مستوى ما وصلنا إليه وكيفية الخروج منه، ألا يجدر بنا أن نضع معاً خططاً مستقبلية، ولو نظريّة لتخفّف من أزماتنا، وترفع من مستوى حياتنا وتفتح الفرص أمام شبابنا؟
إذا سبّبنا الحروب لبعضنا، ألم يحن وقت إطفائها؟ ألا يجب أن نفكّر بالعمران بدل الخراب؟ وهل يجوز أن نجازي ونعاقب من يفكّر بإعادة الإعمار بدل أن نشجّعه ونساعده؟
وهل يجوز أن نقبلَ أنّ دولةً تختارُ من منّا يُسمح له بالازدهار، ومن لا ينصاع تُفرض عليه العقوبات لينهار؟ هكذا نصبح جميعاً، دولاً ومسؤولين، في قفص الاتهام وحجرة الاستعباد مع «وقف الاستعباد»؟
لا مستقبلَ من دون تنمية ولا أُفقَ من دون تطوّرٍ فالحياة تمضي بسرعة، وانْ لم نستلحق أنفسنا بسرعة قطار التطوّر والمعرفة، سنخسر ما تبقّى لدينا، وسيسهل أكثر اختراق مجتمعاتنا من قبل التطرّف والإرهاب، من قبل العدو الأحادي المتماهي معه والمتربّص بنا، ولن يكون لنا حتماً ربيع عربي بل شتاءً غربياً وسيستمرّ قاسياً.
تعالوا معاً نضع رؤية اقتصادية عربية موحّدة، مبنية على مبدأ سياسي بعدم الاعتداء على بعضنا وعدم التدخّل بشؤونِ بعضِنا، هذا إنْ لم نُرد الدفاع عن بعضنا أو صدّ عدوّنا المفترض أن يكون مشتركاً مبدأ سياسي ضروري لكي نؤمّن الاستقرار السياسي أساس الازدهار الاقتصادي. كذلك نبني هذه الرؤية أيضاً على مبدأ ثقافي حضاري اجتماعي قائم على احترام اختلافنا وتقبّل تنوّعنا لنحفظ حقوقَ بعضِنا في الدين والفكر. مبدأ ثقافي ضروري لكي نؤمّن الحصانة التعدّدية في وجه التطرّف والاحاديّة.
هكذا نضع المخططات الاقتصادية والعمرانية على أساس عربي موحّد، دون أن نعتبر أنّ تكتلات بعضٍ منّا إلاّ قوّة لكلِّنا أو حافز لنا بدل أن نرى فيها اصطفافاً او إضعافاً لبعضنا. وأنا في ذلك لا أخفي توجّهاً لديّ بخلق مساحة اقتصادية مشرقية مشتركة تضمّ هذا الجزء من منطقتنا العربية، نجلب الازدهار لها من خلال إعادة إعمار سورية والعراق وإعادة النهوض بلبنان، وتقدّم الأردن ومصر وبناء فلسطين. – كم جميلٌ مثلاً أن نخرجَ على شعوبنا، بسكّة حديد تربط بلداننا، بخط غازٍ يأخذ غاز لبنان إلى العراق ونفط العراق إلى لبنان، وبربط كهربائي منجز غير مقطّع، وبمرافئ تجعل المتوسط على حدود العراق والبحر الأحمر على حدود سورية، وبسدودٍ من لبنان تغذّي الأردن وبمعامل من الأردن تغذّي لبنان، وباتفاقات تجارةٍ تفاضلية تلغي جشعنا على بعضنا وتفتح التكامل بيننا بعد أن تفتح الحدود دون حصار او رسوم.
– كم جميل أيضاً أن نخرج بخطّة إعادة النازحين واللاجئين الى أرضهم، بمعزل عن رغبة من هجّرهم، لأنّ مَن هجَّرَهم يريد إبقاءَهم، أما نحن المستقبلين لهم فنريد عودتهم الكريمة ولا أحد يمكن ان يمنعنا من ذلك إذا جعلناها كريمةً لهم، ومفيدة لاقتصاد بلدانهم.
– كم جميل أكثر لو نفتح الانتماء بين بلدانِنا لنحوّلَ نقمةَ المذهبية المهيمنة على بلدانِنا الى نعمة المواطنة لمشرقنا، بحضارته وتعدّديته.
إنّ هذا كلّه لا يمكن ان يكون إنْ تركنا فجواتٍ في داخلنا، وسورية هي الفجوة الأكبر اليوم في مؤتمرنا، ونشعر بثقل فراغها بدل أن نشعر بخفّة وجودها.
سورية يجب أن تعود الينا لنوقف الخسارةَ عن أنفسِنا، قبل أن نوقفها عنها. سورية يجب أن تكون في حضننا بدل ان نرميها في أحضان الإرهاب، دون ان ننتظر إذناً او سماحاً بعودتها، كي لا نسجّل على أنفسنا عاراً تاريخياً بتعليق عضويتها بأمرٍ خارجي وبإعادتها بإذنٍ خارجي، وكي لا نضطر لاحقاً الى الإذن لمحاربة إرهاب او لمواجهة عدو أو للحفاظ على استقلال وكي لا نسأل ماذا يبقى من عروبتنا إنْ هكذا كنّا. وكي لا أسألكم أنا اليوم ما معنى جامعتنا وأين الجمع انْ نجحت فقط في الإقصاء والمقاطعة والتخفيض بدل التعزيز والتعليق، وكي لا يسألنا أولادنا غداً لماذا حافظتم على هذه الجامعة إنْ كانت للتفرقة؟
يبقى أنّ لبنان مهما أخفق أو أخطأ، يبقى هذا البلد الصغير الكبير، أخاً صغيراً لكم ورسالةً كبيرةً لكم. احتضنوه ولا تتركوه، فهو لم يطعن يوماً أحداً منكم ولم يعتد يوماً على أيّ مواطن عربي، بل كان ملجأً وحامياً وحافظاً لشعوبكم ومعمّراً لبلدانكم، ومستوعباً لتنوّع حضاراتكم وثقافاتكم ويبقى دوماً واحة المحبة لكم والضيافة بكم والتهليل لكم ولقدومكم. احضنوه ولا تتركوه فهو منكم ولكم ولن يكون يوماً إلا خيراً لكم.
كلمة وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل
في الاجتماع الوزاري العربي في بيروت