سورية ولبنان والحضن العربي الضعيف

د. رائد المصري

بهدوء… فالمقايضة بين قبول العداء لإيران أو السّكوت عن التطبيع العربي العلني مع الكيان الصهيوني كمشروع استعماري أميركي جديد تتمظهر صورة نظام الحكم اللّبناني وصيغته الطائفية والمذهبية المعزّزة للانقسام العمودي يوماً بعد يوم وهي تشبه كثيراً صورة العرب المأزومين والملحقين بالمستعمر الغربي والأميركي، خصوصاً بعد مشهديّة اللّقاءات والمشاورات التي أجرتها المؤسسات الطائفية للمّ شمل المذاهب ووحدة الصّف على المستوى المسيحي والدرزي والشيعي وقبلها كان وبقوّة السّني، والبدء بإجراءات اجتماعات المحافل الطائفية من أجل التحريض والاصطفافات القاتلة للوطن، واكبه جنون وشماتة سياسية بمستوى الحضور العربي المتدنّي للقمّة الاقتصادية من دون أن يدركوا خطورة المرحلة وانكفاء الرؤساء والملوك العرب عن هذا الحضور الذي عاكسه حضور لافت خارجاً عن السّياق العربي لأمير قطر في خطوة ليست بعيدة عن التمنّي الإيراني له والسعي لتحقيقه، والذي انتظرت القيادة فيها حتى اللّحظة الأخيرة كي لا ترمى سهام التّهم على رئيس العهد بالضّعف والارتباك، وهي مشهديّة تشبه تماماً ومن دون وعيٍ، انكفاءة هؤلاء الحكّام للنّظام الرسمي العربي من العودة إلى سورية وإعادة اللّحمة والتواصل عبر سفاراتهم، التزاماً بالقرار الأميركي الذي يعتبر أنّ الفرصة ليست متاحة بعد، وهو بانتظار أن تنضج الطّبخة السورية ليأكلها وحده، وهذا هو دأب المستعمر دوماً، وما الحكّام العرب ومثيلهم في لبنان إلا النموذج الذي يحاكي هذا الواقع المهزوم لبنانياً وعربياً…

أراد ترامب وبولتون وبومبيو خلط الأوراق السياسية السّريعة في المنطقة ومن البوابة السورية لإعادة الاصطفاف والاستقطاب الإقليمي للبلدان العربية التي انهزمت وتضرّرت مشاريعها الوظيفية وخلعها من الصراع السوري، لكن بعودة تدريجية وبطيئة الى دمشق تسهيلاً للحصول على التنازلات السياسية والاقتصادية والأمنية المطلوبة، فكانت الدعوة لعقد مؤتمر وارسو في إمكانية إنشاء حلف عربي أميركي «إسرائيلي» في وجه إيران بعناوين مذهبية، تعيد إنضاج المشروع «الإسرائيلي» الذي تخرّب وفقد قواعد اشتباكه في الإقليم بعد أن عبث بالمكوّنات السورية وورقة الإرهاب في الجنوب السوري، لتضفي «الشرعية العربية» بحدّها الأدنى على الكيان الصهيوني لكونهم عجزوا عن تمرير صفقة القرن، وتبقي العرب والخليج في حالة استنفار وجهوزية مالية وإعلامية حاقدة بوجه إيران ومحور المقاومة، وتقييداً للدور الروسي الذي توسّع في سورية والمنطقة مؤخراً، وليس في استطاعة أصحاب هذا المشروع التخريبي إلا استخدام الشعارات الطائفية والمذهبية التي تضرب وحدة الأهداف في منظومة محور المقاومة، وتحدث الشّقاق بين تركيا وروسيا مؤخّراً على خلفية طرح المنطقة العازلة بقيادة أنقرة، وتبعد سورية عن إيران في نهاية الأمر، من دون أن يدرك هؤلاء المغامرون في رسم السياسات الدولية والإقليمية بأنّ التحالف الاستراتيجي الذي نسجه الرئيس الراحل حافظ الأسد مع الجمهورية الإسلامية في إيران منذ العام 1979 وانتصار الثورة وأبقى عليه الرئيس بشار الأسد لا بل عزّزه كمصلحة استراتيجية عليا، هو ما أعطى نتائجه الإيجابية على وحدة سورية وحمايتها بعد أربعين عاماً، وإدراكه مسبقاً أنّ أغلب الحكّام العرب ومؤسّساتهم السياسية ستنقلب وستطعن سورية من خاصرتها متى تحين الفرصة لهم… وهنا يتوجّب السؤال عن جدوى العمل العربي المشترك والجامعة العربية وكلّ المؤسسات التي صارت بؤراً للتجسّس ومنابر للتحريض وبثّ الفتن والقلاقل بين دول يفترض أنّها شقيقة…

الآليات الجديدة في الحرب الأميركية على سورية تمثّلت في عزل العرب وتجميع الإرهاب وتركيا و»إسرائيل» في بوتقة واحدة، واستعمال الكرد مرة جديدة والاستثمار بهم، وهذا كافٍ برأيهم لاستمرار الأزمة السورية ردحاً جديداً من الزمن وهو ما يريده الأميركي بشدة. أما لناحية حلف سورية مع روسيا وإيران فإنّهم ماضون في توفير الأسس السياسية والعسكرية والاستراتيجية لاستكمال السيادة السورية على كلّ أراضيها واستعادة دورها الإقليمي بالتنسيق مع العراق سواء عبر الحرب أم من خلال الحلّ السّلمي…

لن أتحدّث عن تفاهات السّياسة اللبنانية وتجمّعات الطوائف وزعماء ميليشياتها المذهبيين وأساليب الحكم في فنّ إلغاء الآخرين من أبناء جلدتهم في الوطن، لأنّ الوقائع الميدانية وحجم المواجهة التي يخوضها محور المقاومة وتثبيت المعادلات في سورية والعراق ولبنان أقوى من أيّ محاولة أو مغامرة لفاسد سياسي وطائفي في لبنان أن يعدّل فيها أو أن يعيد الرّهان على إملاءات ديفيد هيل وكبار المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية، وهم الذين عجزوا بالأساس عن الحفاظ على حياة ألفي جندي أميركي يريدون سحبهم من المنطقة، فكيف لهم القدرة على التغيير والرهان بأحصنة خاسرة سلفاً كانت قد جرّبت من قبل أيام جورج بوش الإبن ومنذ العام 2005 وما قبلها وتركوها بعد ذلك تسرح في حظائرها المذهبية الى أن يحين دورها التخريبي مجدداً…

إنّها حكايات تآمر الداخل مع المستعمر الخارجي الذي كان أميركياً، ويمكن أن يصبح «إسرائيلياً» بعد قمّة وارسو، وإذا كان الشّعار المرفوع عربياً وأميركياً هو إيران، فإنّ حقيقة هذه المواجهة المزمعة إقامتها هي في إيجاد المناخ الصّافي لحملة التطبيع وتسهيلها بين العرب و»إسرائيل» لإظهارها الى العلن، وساعتها تكون المقايضة بين قبول العداء لإيران أو السّكوت عن التطبيع العلني مع الكيان الصهيوني…

هذه هي المعادلة التي يرسمها عتاة المحافظين الجدد من العنصريين والذين يقابلهم السّفاح العنصري في الكيان المحتلّ بنيامين نتنياهو وهو على أبواب انتخابات تشريعية قد تعيد الناخب الإسرائيلي وتجرّه الى الاقتراع للتطرّف والعنف، يوازيهم ساسة في لبنان تطرّفوا بعدائهم لسورية وللمقاومة وما زالوا، وبعد أن خجلوا أو خافوا من الرهان الجديد على إملاءات ديفيد هيل في زيارته لبيروت، عقدوا العزم على الاصطفاف الطائفي والتحريض المذهبي بتجديد اجتماعات محافلهم، علّهم يجدون بذلك نفعاً يطيل من استمرارية زعاماتهم التي تتفتّت، وبكلّ حال هي سياسات لا تبني أوطاناً بل تعزّز التفريط بشروط البقاء في هذا الكيان الذي أصبح جحيماً ومهزلة…

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى