تيارات العنف الإسلامي… أخطاء الأمس تتكرّر
الشيخ جمال الدين شبيب
في أواسط تسعينات القرن الماضي… عندما أطلق فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي وفضيلة الشيخ محمد الغزالي -رحمهما الله -والأستاذ فهمي هويدي مبادرتهم الطموحة لوقف الجرح النازف في مصر, اشتعل الجدل في صفوف جميع أطياف العمل السياسي والأمني في مصر.
وانطلقت الأسئلة تترى في أعقاب بعضها محذرة من التعاطي مع المبادرة أو مرحبة بها، فكانت جبهة الرفض الرسمية والإعلامية تتساءل من جهتها: لماذا يتحرك العلماء الآن؟ هل يجدي مع الإرهاب حوار؟ هل يذعن هؤلاء الارهابيون لأقوال العلماء، وأي مرجعية لهؤلاء العلماء عند الإرهابيين؟ هل نكافئ المجرمين على جرائمهم؟
وتمنطق الرافضون من حملة السلاح، بأيديولوجيا عدم الالتقاء مع «الكفر» في منتصف الطريق، وظلت تساؤلاتهم تنطلق من نوعية: لماذا نعطي الدنية في ديننا؟ هل نبادر إلى التخلي عن مشروعنا «الجهادي» لأجل سلامة أجسادنا، هل نملك تعطيل «الجهاد»؟
ولم يستمرّ الجدل طويلاً، إذ سرعان ما طويت صفحة الجدل حولها في أعقاب إقالة وزير الداخلية المصري الراحل عبدالحليم موسى الذي كان ترحيبه المبدئي بالمبادرة سبباً في إقالته… وبدا من الأحداث التي تلت إحباط المبادرة أنّ العالمين الجليلين كانا يسبقان التاريخ ويستشرفان المستقبل إذ حالت ضبابية الرؤية الأمنية دون تجنيب مصر سنوات من العنف والعنف المضاد.
وبالتالي فإنّ تراجع الجماعة كان في الأساس فكرياً قبل أن يكون عسكرياً، وهذا التراجع الفكري بدوره تأخر كثيراً، واستدعى مقتل 93 وإصابة 68 من السياح الأجانب، ومقتل 42 وإصابة 45 من النصارى، ومقتل 382 وإصابة 400 من ضباط وجنود الشرطة، إضافة إلى مقتل عدد من المسؤولين والصحافيين أبرزهم رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب السابق ، و الصحافي العلماني فرج فودة، إضافة إلى إصابة صفوت الشريف وزير الإعلام ، علاوة على مقتل وإصابة المئات من أفراد الجماعة الإسلامية، قبل أن تبدأ الدولة في تهيئة الظروف المناسبة للمراجعات، وتفسح المجال لأن يواجه الفكر نظيره.
كان الشيخان الشعراوي والغزالي يريدان أن يحدثا هذا الشرخ في منظومة الأفكار التي تسيطر على عقول قيادات الجماعة الإسلامية، قبل أن تجنح الجماعة إلى الاستسلام قهراً لأنّ هذا الأخير من شأنه أن يبقي الأمل «الجهادي» مخبوءاً في صدور الأغرار لا يقتلعه ألف مدفع وألف كتاب. وبحكمتهما، كانا يدركان أنّ الإقناع كفيل بأن يحلّ القضية إلى الأبد فلا تكون عرضة لتغيّر موازين القوى من جديد.
كان من الضروري أن يلتفت الساسة المصريون آنذاك إلى مبادرة الشيخين الجليلين في حينه، قبل أن يستفحل الخطر، ولعلّ الذين راهنوا على الحلول الأمنية وحدها قد رجعوا الآن إلى حقيقة مفادها أنّ معضلة الجماعة الجهادية لم تستطع الدولة حلها في الأخير إلا عبر إطلاق الهواء ليتنسّمه قادة الجماعة وإنْ في غياهب السجون, حتى يتسنّى لهم مراجعة مفاهيمهم وأفكارهم.
ومن هنا أزعم أنّ أكبر ضربة وُجهت إلى مشروع الجماعة الإسلامية المسلح لم تكن من خلال المحاكمات العسكرية المتوالية وتدمير حقول القصب بمن فيها بصعيد مصر، وإنما كان من خلال المراجعات الفكرية التي نزعت غطاء المشروعية عن أفعال المقاتلين بنظر قادتهم أنفسهم، وقد كان العلماء وقت أن أطلقوا مبادرتهم بعيدي النظر وأكثر حرصاً على الدولة من جنرالاتها فالعنف الذي ينطلق من أيديولوجية يراها أصحابها «جهادية» غير قابل للتوجيه الصحيح إلا عبر حوار مع علماء صادقين يفهمون ما يدور في عقول الصغار من هذا التيار.
ومن ثم يبيّن هؤلاء العلماء الثقات للمغرّر بهم من الشباب خطأهم ويسعون معهم إلى تحقيق الصواب من أجندتهم فإن الله لم يخلق شراً محضاً كما هو معلوم، ولعلّ من أظهر ما ورد في كتب المراجعات الخاصة بالجماعة الإسلامية المصرية هو التشديد على أنّ غياب التوجيه من قبل العلماء في تبصير الشباب الثائر بآليات التغيّر الجائزة شرعاً كان سبباً رئيساً في سفك كثير من الدماء بغير وجه حق.
ولقد كان من أهمّ دروس حقبة العنف والعنف المضاد المصرية هو أنّ ممارسة حوار الطرشان بين قيادات الحركات المسلحة وجهات أمنية وعلماء يسمّيهم الشباب علماء السلطة لم يكن ليجدي ولو استمرّ لقرون من دون تدخل علماء لهم حضور وتقدير واستقلالية بل ومعاناة أحياناً لدى الشباب الثائر، وبالتالي فإنّ كتب المراجعات لم ولن تكون مقنعة لقواعد التيار الإسلامي المصري لو كانت صدرت من قبل علماء لا يتمتعون بالاستقلالية المطلوبة، وهو ما وفر لها المصداقية والقبول لدى قطاع عريض من أعضاء الجماعة سئم طول الطريق الضبابي برغم ما اعترى الكتب ذاتها من أخطاء كونها غير صادرة عن علماء أصلاً.
فهل يعي العلماء الثقات اليوم دورهم في تحصين الشباب من الانخراط في دوامة العنف؟ وهل تعي تيارات إسلامية تتبنى العنف وسيلة للتغيير في غير منطقة من العالم العربي دقة المرحلة فتستفيد من أخطاء سابقاتها فتنقذ الشباب المسلم من دوامة عنف لا تنتهي إلا بانتهاء أصحابها أو دمار بلدانهم؟