حكومة الوحدة الوطنية والمحميّات الطائفية
د. رائد المصري
بهدوء… فقد انتظر اللبنانيون طويلاً تشكيل حكومة تنقذ بلدهم من الانهيار تأتي ممثّلة للمكوّنات السياسية وللأحزاب التي انبثقت عن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، بعد مخاض عسير حاول كلّ فريق سياسي استكشاف المتغيّرات في الإقليم وهو في طريقه إلى تقديم التنازلات أمام شريكه الآخر في الوطن، تماماً كأننا زمن الحرب الأهلية واحتراب الطوائف والتخندق الطائفي والمذهبي، لكن هذه المرة من دون سلاح بل تخندق واصطفاف سياسي مغطّى ومحمي من طواقم ونوافر وإفرازات الهيمنة والتسلّط التي تمسك بخيوطه زعامات طائفية تحاول تجديد ثقافة الإلغاء للآخر وممارسة العنصرية، متنقّلة في كلّ مرة من دائرة أحداث الى أخرى ومن تجربة الى سواها، من دون محاولة الولوج الى الدولة المدنية التي تحكمها سيادة القانون ولو لمرة واحدة…
ربّما كان عزاؤنا هذه المرّة في تشكيل حكومة الطوائف والمحميات المذهبية والتحاصص هو تمثيل اللّقاء التشاوري من خارج إطار هذه الاصطفافات والذي يمكن له أن يشكّل المدخل لتأسيس حالة وطنية، لكنّها غير كافية بعد استبعاد الأحزاب العلمانية والقومية من أن تدخل المسرح الحكومي، لأنّها تقوّض التكتّلات الطائفية وتشلّ عملها وتقطع الطريق على أيّ محاولة لوضع اليد على الأموال العامة والمساعدات الدولية المشروطة كمؤتمر «سيدر» وغيره. والخشية هنا من أن تتحوّل حكومة الوحدة الوطنية بصيغتها الشكلية الى التحاصص والالتفاف على مطالب الشعب: أولاً بتبذير أموال المؤتمرات الدولية المانحة وتقسيم الغنائم في ما بين أقطابها، وثانياً اللّجوء الى تنفيذ شروط البنك الدولي المتوحّشة ومؤسّساته المالية من فرض حالة التقشّف وسحب الضمانات الاجتماعية والحقوقية من جيوب الفقراء والموظّفين الذين ناضلوا طويلاً في سبيل تحقيقها. وهذا أمر نراه واقعاً حتماً يجب التنبّه إليه مسبقاً وتتوجّب المراقبة والمساءلة والحذر الكبير…
تبقى مهمّة أساسية أمام حكومة الوحدة الوطنية وهي خلع وإزالة المتاريس الطائفية والمذهبية والحدّ من جرأة البعض من الحزبيين وغيرهم أو ممّن يدّعون أنّهم نخب ومثقفون عن القيام بأعمال مخلّة بالأمن والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة وترويع المدنيين الآمنين بحجّة الإساءة للطائفة والمذهب ولرموزها. وهذا يدلّ على حالة الاستقواء بالدين وبالطائفة عند كلّ مشكلة أو تفصيل، عبر التعبير العنفي المرفوض شكلاً ومضموناً بحقّ وسائل الإعلام والتعبير عن الرأي، وبحقّ الشخصيات والمؤسسات الإعلامية والعامة. وهنا نكون أمام منطق وثقافة داعشية في الفكر والممارسة وأسلوب مشوّه في القبول للآخر طالما أنّ لبنان يعدّ بلد التعدّدية والتعايش…
لبنان الذي بات يشكّل اليوم مرتكزاً في الإقليم وسنداً داعماً لسورية التي خرجت من محنتها منتصرة راسمة لمعادلات دولية صارت أنموذجاً، لا يمكن أن يكتب له النجاح في مسيره من دون إجراء تعديلات وإصلاحات دستورية شاملة، تبدأ من تفعيل المادة 95 من دستور الطائف ولا تنتهي باعتماد النظام السياسي المدني العلماني بما فيه تطوير القوانين وتقويض نشاط الفاسدين والحدّ من فعالية زمر السماسرة ومافياتهم، ودون ذلك فإنّ البلد معرّض بشكل مستمرّ للأزمات والنّكبات وللاستقطابات الطائفية والمذهبية الحادة…
الميليشيات الطائفية والمذهبية التي تسرح في بيروت وباقي المدن يجب وضع حدّ لها، فهي التي تشوّه وجه البلد وتحشر المقاومة في زوايا ضيّقة، وتبعد المكونات السياسية عن التقارب مع سورية ومع الأشقاء العرب، وتعطي الغرب ومعه الكيان الصهيوني الذريعة الكافية لحصار لبنان وتقويض عمل مؤسساته الاقتصادية والمالية التي تستفيد من حال الانقسام العمودي المسهّل للتدخل الخارجي من أجل التخريب والعمل على عدم الاستقرار…
إنّها محنة حكم الطوائف وتفلّت أزلام المذاهب ومحاسيبهم واستقواؤهم بالدين، لأنّها تعتبر نفسها أقوى من الدولة لكون وجودها سابق على وجود الدولة في لبنان. ومن هنا تستمدّ هذه القوى حيويتها ونفوذها الذي لا يوازيه نفوذ. فليس هناك من سيادة للقانون تقع جميع المكوّنات والمجاميع البشرية تحت سقفه وتخضع لحكمه. فالحكم السياسي القائم على الروابط العائلية والعشائرية والقبلية قلّما تستحكم فيه الدولة الفصل التاسع من الباب الثالث من مقدمة إبن خلدون …
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية