أركان الشبكة المتحكّمة ربحوا فيما اللبنانيون خسروا…
د. عصام نعمان
أخيراً، وبعد تسعة أشهر على إجراء الانتخابات النيابية، تمكّن أركان الشبكة المتحكمة من توليف «حكومة وحدة وطنية». بإعلانها بدا أركانها رابحين، وبنتيجتها بقي اللبنانيون خاسرين.
حكومة وحدة وطنية؟ الأصحّ أنها وحدة ظرفية بين أركان الشبكة المتحكمة إياها. ثم، هل هي حكومة حقاً أم منظومة سلطةٍ عاجزة عن الحكم بسبب تناقضات أطرافها وترهّل ما تبقّى من الإدارات والمرافق العامة؟ لبنان، في الواقع، بلا دولة منذ استقلاله النظري سنة 1943. ما لديه نظام هو بمثابة آلية لتقاسم السلطة والمصالح والمغانم والنفوذ، تديره شبكة متحكمة من متزعّمي طوائف ورجال أعمال وأموال ومتنفذين في أجهزة الأمن.
لماذا تأخّر تأليف منظومة السلطة؟
لأنّ الانتخابات الأخيرة أفرزت موازين قوى مغايرة واستدعت إعادة تركيب معادلة المحاصصة في ضوئها. ما كان الأمر ليتطلّب شهوراً تسعة لاجتراح تسوية مقبولة من الأطراف المتصارعة لو كان في البلاد معارضة فاعلة. صحيح أنّ غالبية الشعب مسحوقة وساخطة وناقمة على الشبكة المتحكمة، لكن المعارضة المتشوّفة الى القيادة متشرذمة وضعيفة التأثير والفعل.
قيل إنّ سبب التأخير في توليف منظومة السلطة يعود إلى ضغوط وتدخّلات مصدرها أطراف إقليمية ودولية متصارعة. هذا تبرير مبالغ فيه. فالقوى الإقليمية المحافظة المؤيدة للأطراف السياسية المحلية المتحالفة معها تراجَع نفوذها كثيراً بعدما خسرت حربها في سورية، وهي على وشك الإقرار بخسارتها في اليمن، ولا تطمح، حاليّاً، الى أكثر مما بقي لها من نفوذ. إلى ذلك، فقدت الولايات المتحدة الكثير من سطوتها وتأثيرها بعد هزيمة التنظيمات الإرهابية المتحالفة معها في المنطقة، فأعلنت اعتزامها سحب قواتها العاملة في سورية وفي أفغانستان أيضاً الأمر الذي أضعف نفوذها كثيراً بدليل الضغوط التي مارستها على حلفائها في لبنان لاستبعاد حزب الله عن المشاركة في الحكم، لكن حلفاءها هؤلاء عجزوا عن تلبية الطلب.
الحقيقة أنّ السبب الرئيس لاحتدام الأزمة الوزارية وتطاولها هو ترهّل النظام وأهله وتفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية. ذلك دفع المراقبين والمحللّين الموضوعيين، كما القياديين الوطنيين المستنيرين، الى الاستنتاج بل الجزم بأنّ أركان الشبكة المتحكمة قد وصلوا الى طريق مسدود. مؤدّى ذلك انّ حال منظومة السلطة الجديدة ومصيرها لن يختلفا كثيراً عن حال سابقتها، وأنه محكوم عليها بالفشل.
قلةٌ من المراقبين الموضوعيين استبعدت لها هذا المصير بدعوى أنّ وجود حزب الله داخل منظومة السلطة يتيح للأخيرة البقاء طويلاً لكونه خارج الشبكة المتحكمة أصلاً ومعارضاً لها ضمناً ومؤيداً للمطالب الإصلاحية والاجتماعية ومحاربة الفساد التي تنادي بها قوى المعارضة. هذا ممكن، لكن الأرجح انّ حزب الله لن يكبح أو يعارض القوى الوطنية والتقدمية في حملتها على أهل النظام وفسادهم بل سيدعمها، ولا سيما في كلّ ما يتعلّق بالمطالب الحياتية من غذاء ودواء وصحة وماء وكهرباء، وضمانات معيشية واجتماعية ومحاربة منهجية للفساد ومقاومة للقوى الإقليمية والدولية التي لا تنفك تحاول زجّ لبنان في كلّ ما من شأنه مناوأة إيران ومعاضدة «إسرائيل» ومناصرة الغرب الأطلسي. ذلك انّ الدافع الأساس لاشتراك حزب الله في ما يسمّى «حكومة الوحدة الوطنية» هي المشاركة في القرار السياسي لضمان عدم تحويره او إساءة تنفيذه لإيذاء المقاومة ومصالح لبنان العليا. وليس أدلّ على صدق توجّههه في هذا السبيل من نجاحه في إحباط ضغوط أميركا المتواصلة للحؤول دون مشاركته في منظومة السلطة وفي تخصيصه بوزارة الصحة ذات الخدمات الوافرة للناس.
من المفترض ان تكون قوى المعارضة الوطنية والتقدمية محيطة بأبعاد المشهد المحلي وتعقيداته وانعكاس الصراعات الإقليمية عليه، ومدركة تالياً انّ فئات الشعب اللبناني بمعظمها رحبّت بإنهاء الفراغ الحكومي بمنظومةٍ جديدةٍ للسلطة آملةً ان تبادر الى إصلاح ما يمكن إصلاحه والوفاء بالحدّ الأدنى من المطالب الحياتية الأساسية. لذا لن تلجأ المعارضة الوطنية الى مواجهة «الحكومة» الوليدة بتدابير شعبية قاسية، متيحةً لها بذلك فرصةً لمواجهة التحديات الماثلة واستجابة مطالب الناس الاقتصادية والاجتماعية الأساسية. لكن المعارضة لن تتوانى عن ممارسة النقد والتصويب وعن متابعة عملية الحشد والتعبئة والتنسيق والتنظيم، حتى إذا اتضح لها ان منظومة السلطة الجديدة عاجزة أو مقصّرة في القيام بواجباتها، بادرت دونما إبطاء الى تصعيد وتيرة تصدّيها المباشر لها وصولاً الى ممارسة بعض وجوه العصيان المدني.
هكذا تستبين الحاجة الى مواجهة كلّ هذه التحديات بجبهة عريضة من القوى الوطنية والتقدّمية هدفها بناء الدولة المدنية الديمقراطية على أسس المواطنة والحرية وحكم القانون والعدالة والتنمية، وذلك بالنضال الوطني والاجتماعي الهادف الى تغيير البيئة السياسية بتغيير أساليب العمل السياسي التقليدية وآلياته.
في سياق استنهاض قوى المعارضة الوطنية والتقدمية، يقتضي الحرص على التدابير العملانية الآتية:
– إقامة هيئة وطنية متخصّصة في شتى المجالات لمراقبة أداء منظومة السلطة ومؤسساتها وفضح ارتكاباتها، ووضع المناهج والسياسات والإجراءات الصحيحة البديلة والسعي الى اعتمادها.
– وضع خطة إعلامية متكاملة للإفادة من وسائل التواصل الاجتماعي بغية تكوين رأي عام مناهض للنظام السياسي الفاسد المترهّل وسياساته وأدواته.
في ضوء مردود التدابير العملية السالفة الذكر، يجري وضع برنامج سياسي مرحلي لجبهةٍ وطنيةٍ هدفها إعادة تأسيس لبنان دولةً ووطناً، مع التركيز على الأولويات الاكثر إلحاحاً:
أولاً: إعادة بناء الدولة ومؤسساتها وتشريع قوانينها بالحرص على تطبيق أحكام الدستور غير المطبقة عملياً ولا سيما المادة 7 مساواة اللبنانيين أمام القانون والمادة 20 استقلال السلطة القضائية والمادة 22 انتخاب مجلس نواب وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف، على ان يُصار الى اعتماد قانون جديد للانتخابات على أساس النسبية في دائرة وطنية واحدة واعتباره أولوية أولى والمادة 27 النائب يمثل الأمة جمعاء والمادة 95 إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية .
ثانياً: محاربة الفساد في الدولة والحياة العامة، ومواجهة الضائقة المعيشية بقوانين ومشاريع لإزالة البطالة والفقر والمرض والنفايات، وحماية البيئة وتعميم الضمانات الاجتماعية ولا سيما ضمان الشيخوخة.
ثالثاً: التوافق على استراتيجية متكاملة للدفاع الوطني وتكريس دور المقاومة فيها.
رابعاً: معالجة مسألة النازحين السوريين بالتعاون الوثيق مع سورية ومؤسسات الأمم المتحدة ذات الصلة.
خامساً: التعاون الوثيق مع القوى الشعبية المناهضة للهيمنة الأميركية والكيان الصهيوني والإرهاب.
الخلاصة: إنّ البقاء تحت وطأة النظام الطائفي المركانتيلي الفاسد وفي حمأة الحروب الأهلية المتناسلة موتٌ بطيء ومحتم، فيما الانطلاق الى التغيّر والتغيير الديمقراطي النهضوي ارتقاءٌ الى حياة حضارية جديدة ومبدعة، وقد آن الأوان.
وزير سابق