هل يجرؤ ترامب على التدخل العسكري في فنزويلا؟

أسهبت النخب الإعلامية والفكرية الأميركية في التذكير بخلفيات التصعيد الأميركي حيال فنزويلا، منذ إعلان الرئيس الأسبق جيمس مونرو، 1823، عن أعمدة استراتيجية بلاده مبدأ مونرو والخاص بقارة أميركا الجنوبية بكاملها، في أعقاب اندحار حروب نابليون التوسعية، وبعدم السماح لأيّ من القوى الأوروبية القديمة نشر نفوذها هناك مقابل عدم تدخل الولايات المتحدة بالمستوطنات الأوروبية القائمة . القارة الجنوبية كانت تخضع بشكل شبه مطلق لكلّ من اسبانيا والبرتغال تتخللها بعض الجيوب الانكليزية والفرنسية والهولندية.

منذ تلك الحقبة تعاملت الإدارات الأميركية المتعاقبة مع مبدأ مونرو من منطلق الثوابت الاستراتيجية باعتبار القارة حديقة نفوذها الخلفية ، وشهد تطبيقه مداً وجزراً منذئذ.

خلال ولاية الرئيس أوباما الثانية، سعت واشنطن طمأنة دول أميركا اللاتينية والمنضوية تحت إطار منظمة الدول الأميركية ، بفتح صفحة جديدة تجسّدت في الانفتاح المرحلي نحو كوبا. وأكد وزير الخارجية الأسبق، جون كيري، توجهات بلاده مخاطباً مندوبي تلك المنظمة، تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، بالقول لقد ولّى عصر مبدأ مونرو .

التطرق لـ مبدأ مونرو بالتفصيل وما نجم عنه من مجازر متواصلة وحملات عسكرية لواشنطن في كافة أركان القارة الجنوبية، ليس محور هذه السطور بل لتسليط الأنظار على ما كانت تعدّه واشنطن من خطوات مدروسة بعناية وتأنّ للإطاحة بنظام جمهورية فنزويلا البوليفارية، والمغيّبة عن التداول والمواقف السياسية المرصودة، انتصاراً لمبدأ .. هزيمة العدو دون اشتباك ، الذي ورد في كراس صادر عن سلاح الجيش الأميركي.

الوثيقة العسكرية صادرة عن قيادة القوات البرية، بتاريخ أيلول/ سبتمبر 2008، شبه سرية بعنوان قوات العمليات الخاصة في سلاح البر: الحرب الهجينة، والتي نشرتها ويكيليكس مع نهاية شهر كانون الأول/ ديسمبر 2008.

الكراس محدود التوزيع وصفته ويكيليكس بأنه دليل انقلابات ركزت فيه على بند الحرب الاقتصادية ضدّ فنزويلا الذي يتضمّن إرشادات حول استخدام الحكومة الأميركية سلاح التمويل لشنّ حروب اقتصادية ضدّ حكومات أجنبية تنوي تطبيق منهج اقتصادي مختلف، وآليات عمل القوات الخاصة.

يشار إلى أنّ كراكاس ومنذ عام 2013، حينما استشعرت الخطر الأميركي بشنّ حرب اقتصادية، بدءاً بالمصارف والبنوك الدولية، دفعت نحو 64 مليار دولار لخدمة الديون العامة الأجنبية . ويشير خبراء الاقتصاد الدولي إلى أنّ 90 من اصحاب حملة السندات الفنزويلية لم يبيعوا سنداتهم دلالة على ثقتهم بقدرة الحكومة تسديد خدمات الديون الأجنبية.

وسارعت مجموعة غولدمان ساكس المصرفية الأميركية العملاقة ببيع 300 مليون دولار من السندات الفنزويلية إلى صناديق التحوّط hedge funds عام 2017، مما عجل البدء بانهيار اقتصاد البلاد. ويعيد أولئك الخبراء إلى الأذهان مسؤولية غولدمان ساكس المحوري في انهيار اقتصاد اليونان.

لم تغب فنزويلا عن أولويات إدارة الرئيس أوباما، بدعمها وتأييدها وتمويلها لعدد من القوى المتضرّرة من محاولات كراكاس المستقلة بتوزيع عادل للثروة الوطنية ومهّدت الأرضية لإنضاج مخططات عدة من بينها عمل عسكري مباشر، وإصدار أمر رئاسي يعتبر فنزويلا خطراً على الأمن القومي الأميركي ، وباشرت حملات مقاطعة المسؤولين الحكوميين.

التصعيد الأميركي أشار إليه جون بولتون، مستشار ترامب للأمن القومي، حديثاً بتسريب متعمّد لاحتمال إرسال 5000 جندي إلى كولومبيا .

عن سياسة التدخل الأميركية في فنزويلا نسترجع حقبة الرئيس الأسبق رونالد ريغان بتعيينه أحد أشدّ المناهضين لنظم أميركا اللاتينية، اوتو رايش، وهو من أصول كوبية، سفيراً لواشنطن في كراكاس، 1986-1989، المعروف بسجله الطويل في تمويل وتجنيد عصابات الكونترا، علاوة على الدور المحوري المرسوم له في إسقاط عدد من السياسيين من أميركا اللاتينية المناوئين للسيطرة الأميركية، لا سيما الانقلابات في نيكاراغوا وهندوراس.

وما تعيين اليوت أبرامز لتولي مسؤولية ملف فنزويلا، وهو المعروف بسجله المشين بالكذب على الكونغرس ورعاية عصابات الكونترا، إلا تكريساً لنهج تدبير الإنقلابات عبر العمليات السرية والتخريبية التي اعتادت إدارات أميركية سابقة اتباعه.

بدعم ثابت من واشنطن، أعلن رئيس كولومبيا خوان مانويل سانتوس، 24 آب/ أغسطس 2016، عن توصل حكومته لاتفاق سلام مع القوات المسلحة الثورية الكولومبية فارك، التي أنشئت عام 1964، بعد وساطة ثنائية مكثفة مع فارك من قبل حكومتي كوبا وفنزويلا على الرغم من أنها كانت تسيطر على نحو 20 من الأراضي الكولومبية.

الاتفاق ألزم فارك، ولديها ما ينوف عن 7 آلاف مسلح، بتسليم سلاحها والانسحاب من الأراضي الواقعة تحت سيطرتها والتحوّل إلى النضال الديمقراطي وصندوق الانتخابات . الحكومة الموالية لواشنطن تعهّدت بتخصيص برامج تنموية للأرياف المحرومة التي لم تستشعر تطبيق ايّ من الوعود، وفي الواجهة أيضاً التصدي المشترك لزراعة وإنتاج وتسويق المخدرات .

يشار إلى أنّ الرئيس الكولومبي السابق، ألفارو اوريبي، 2002-2010، رفض بشدة الاتفاق وترأس حملة واسعة لمناهضته بدعم من بعض الدوائر الأميركية عينها.

النتائج الأولية دلت على بدء واشنطن بإطباق الحصار على الجارة فنزويلا، حين تنضج الظروف، وتحشيد أوسع للقوى والتنظيمات المسلحة الموالية لها مما اقتضى عزل وتفكيك النماذج الثورية التي تتبنّى نهج الكفاح المسلح تمهيداً لليوم المنشود.

تطمينات حلفاء واشنطن في كولومبيا لخصومهم سرعان ما تجسّدت وبالاً على أخوة السلاح: اعتقال أحد قيادات فارك ورئيس الوفد التفاوضي مع الحكومة اغتيال فيكتور سيغويرا، زعيم انشق عن فارك ، لرفضه ومجموعته الاتفاق تمّت بالاشتراك مع وكالة الاستخبارات المركزية، كما ترجح أوساط التنظيم.

لم تكن عملية استدراج فارك وإغرائها بقبول معظم مطالبها الاجتماعية معزولة عن أحجار الشطرنج الأميركية لمحاصرة فنزويلا. عززت واشنطن قواها ومؤيديها في البرازيل بنشر الفوضى دشنتها باغتيال المناضلة والناشطة في حقوق الانسان مارييل فرانكو ، 15 آذار 20118، وسائقها بإطلاق 7 رصاصات عليهما من مسافة الصفر في بلدتها ريو دي جانيرو، كان نصيبها 4 رصاصات في الرأس مطلقة العنان لبروز اليمين الفاشي وتسلمه السلطة بعد مناورات قانونية حرمت كلّ من الرئيسين الأسبقين، لولا دا سيلفا وديلما روسيف، من الترشح للانتخابات الرئاسية.

مارييل شكلت خطراً على أركان الشريحة الحاكمة ، كانت حصيلة ما تردّد في الوسائل الإعلامية المختلفة لدورها المحوري في تنظيم حملة واسعة كشفت عن تورّط جهاز الشرطة في ولاية ريو دي جانيرو بالقتل الممنهج، إذ شهدت ارتفاعاً بنسبة 22 من الاغتيالات والعنف المنظم، بلغ مجموعه 1124 شخصاً في عام 2017.

لا بدّ من الإشارة إلى انّ أبرز مستشاري حملة المرشح الرئاسي في البرازيل، جايير بولسونارو، لم يكن سوى المستشار الاستراتيجي للرئيس ترامب ستيف بانون الذي يجول قارتي أوروبا وأميركا الجنوبية ويعمل لإيصال اليمين الفاشي/ الشعبوي إلى السلطة.

تتشارك حدود فنزويلا مع كلّ من كولومبيا والبرازيل، واللتان تتصدّران المخطط الأميركي للإطاحة بالرئيس نيكولاس مادورو باحتضانهما مجموعات مسلحة شبيهة بفرق الموت السابقة، فضلاً عن احتضان كولومبيا 10 قواعد عسكرية أميركية إذ لديها الحق في استخدام مطارات وموانئ البلاد بدون إذن مسبق .

وبهذا أطبقت واشنطن على النظام الثوري المناوئ لسيطرتها، على الرغم من انتكاسة القوى اللاتينية الأخرى المعارضة للنفوذ الأميركي.

سيناريوات محتملة

الخيار الأميركي الأبرز كان التعويل على نجاح انقلاب عسكري من القوات المسلحة، والذي فشل قبل أن يبدأ نظراً لفطنة القيادة الفنزويلية وتلاحم القوات المسلحة والشرطة مع السلطة الشرعية.

يليه خيار يروّجه المتشدّدون في الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، ايّ التدخل العسكري المباشر للإطاحة بالرئيس مادورو، اغتيالاً أو اعتقالاً، بدعم وثيق من كبريات الشركات الأميركية العابرة للقارات لا سيما النفطية وقطاع الغذاء على سياق احتلال بنما وأسر الرئيس مانويل نورييغا، في عهد الرئيس الأسبق ريغان، وإحضاره مقيّداً ليقضي في السجون الأميركية.

خيار تعاظم الدعم الدولي للحكومة الفنزويلية لم يدخل ضمن سلم أولويات المنادين بإسقاط النظام، وتلقوا صفعة من بعض حلفاء واشنطن الأوفياء في حلف الناتو بمعارضة التدخل العسكري الأميركي. بيد أنّ الدور المركزي كان لروسيا ودعم إيران والصين للرئيس الفنزويلي.

القوة المسلحة التي كشف عنها جون بولتون، 5000 عسكري للمرابطة في كولومبيا، كان رداً ربما على قرار موسكو العاجل بإعلان دعمها السياسي والعسكري والاقتصادي للرئيس مادورو، توجته بإرسال قاذفات استراتيجية على متنها أسلحة نووية، كما ذُكر، للمرابطة في فنزويلا فضلاً عن نشر كوبا لبضع مئات من قواتها الخاصة لحماية مؤسسات الدولة هناك.

الضغوط الأميركية المكثفة على حلفائها الأوروبيين لإعلان دعمها لواشنطن أتى مخيّباً لمراميها بتصدّع مواقف الدول الأوروبية التي طالبت التوصل لحلّ تفاوضي بين الطرفين، مسخرة هيبة ومكانة الفاتيكان إلى جانبها، مما زاد من حنق وغضب واشنطن.

الاصطفافات والانشقاقات في مواقف دول أميركا اللاتينية أيضاً لم تبشر واشنطن بالخير، لا سيما بتعويل وزير خارجيتها استضافة لقاء لنظرائه في مجموعة منظمة الدول الأميركية ، في مقرّها الذي يبعد بضع خطوات عن مقرّ الخارجية الأميركية وأسفر عن انشطار الموقف لقسمين: أغلبية تؤيد واشنطن بالتدخل العسكري، وأقلية وازنة تفضل الحوار السياسي.

وعليه، حشرت واشنطن نفسها في زاوية قلصت مساحة المناورة لديها، غير عابئة بتداعيات تصريحاتها المستمرة والتلويح بخطر روسيا وايران والصين وتواجدها المادي في فنزويلا.

الخيار البديل هو الاستمرار في استهداف الحكومة الفنزويلية عبر تجنيد مسلحين ومرتزقة، كما أوضح جون بولتون، والمرابطة على الحدود الفنزويلية مع كلّ من كولومبيا والبرازيل وتسخيرها في شنّ عمليات اغتيال وتخريب داخلية لاستنزاف الحكومة، وضمان ديمومة عمل فرق الاغتيال والتدمير المنظم للبنى التحتية، على غرار ما فعلته وتستمرّ في تطبيقه على سورية بشكل رئيس.

هاجس واشنطن لترميم هيمنتها على أميركا اللاتينية ستعمّق مأزق الطرفين المتقابلين. بيد أنّ الفارق الملموس في هذه المرحلة هو التواجد العسكري الروسي في فنزويلا مما قد يشكل رادعاً لمحاولات الانقلاب الشهيرة.

بروز محور رافض لواشنطن داخل منظمة الدول الأميركية يشي بانتعاش نزعة الاستقلال لدى النظم الحاكمة، وعدم الالتحاق والتبعية لواشنطن التي بمناوراتها وتدخلاتها تستفز قطاعات شعبية واسعة في عموم القارة الجنوبية.

عامل الزمن في هذا السياق أتى مغايراً لحسابات واشنطن التي ترفض الإقرار بتراجع مكانتها الدولية، وبروز تعدّدية القطاب التي تجسّدها الصين وروسيا بحضور الأخيرة المباشر في الحديقة الخلفية .

ترامب رغم ادّعاءاته حول ضرورة الانسحاب من التدخلات العسكرية المكلفة أعلن منذ اغسطس/ آب 2017 عن رغبته باسخدام الخيار العسكري في فنزويلا، معتقداً أنها ستكون مغامرة مضمونة وكسباً سريعاً يسجله لتعزيز حظوظه في ولاية ثانية. قد يجد في تصعيد الأزمة فرصة سانحة لحرف الأنظار عن أزمته الداخلية ولكنه يكتشف أن الشعب الفنزويلي وقيادة مادورو الصلبة مصممون على حماية بلدهم وتبديد أحلامه بالسيطرة على فنزويلا.

مركز الدراسات الأميركية والعربية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى