واشنطن… سياسة برسائل المواجهة؟
فاديا مطر
لم تعد السياسة الأميركية خافية على أحد برسائلها المبطنة، والتي تحمل في طياتها المصالح الصهيو أميركية أولاً، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وتفاعلاته الدولية وتقاطعات المصالح التي تحكمها، فالإعلان الأميركي عن تعليق العمل بمعاهدة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى الموقعة في العام 1987 من القرن الماضي ليس سوى أولى رسائل المواجهة التي حملت ملفاً أبعد ما يكون عن السياسة باتجاه العسكرة المنفردة والتي تحاول من خلالها واشنطن التمركز في الملفات الدولية بعمق عسكري يلبّي ما أخفقت فيه السياسة الأميركية على كافة مستوياتها، فالخوف الأميركي من تقدّم النفوذ الروسي في أوروبا والشرق الأوسط الآسيوي والشمال أفريقي بلغ حدّ التصريح الصريح من قبل القائد العام لقوات الناتو في أوروبا كورتيس سكاباروتي في آذار 2018، والذي اتهم فيه موسكو بتوسيع نفوذها في السعودية ومصر وليبيا وقبرص، وذلك في بيان نصي رفعه الى لجنة مجلس الشيوخ الأميركي، معتبراً أنّ هذا المسعى يهدف الى زيادة التعاون مع إيران ويغيّر الديناميات الإقليمية التي تنعكس على «إسرائيل» والمصالح الأميركية، وهو الهمّ الأبرز لتعاقب الإدارات الأميركية على تواليها، والتي بات الهمّ الإيراني هو الهمّ الآخر الذي يثقل كاهلها في المنطقة، خصوصاً بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الموقع في العام 2015، وتصاعد العقوبات الاقتصادية على طهران، والتي لم تمنعها من حماية ترساتنها الصاروخية التي تتنامى رغم عقوبات واشنطن.
فإيران التي أعلنت في 3 شباط الحالي على لسان وزير دفاعها العميد أمير حاتمي أنها اتخذت خطوة كبيرة لوقف الاعتماد على الخارج في إنتاج الغواصات وتوقيع مذكرة تفاهم بشأن تحويل صناعة السفن العملياتية التي تحتاجها منظمة الموانئ والملاحة البحرية إلى وزارة الدفاع، هي خطوة بالغة الدقة بالنسبة لواشنطن المراقبة عن كثب للتطورات في طهران، وهو ذات السبب الذي دفع واشنطن لتعليق معاهدة الصواريخ التي أعلنت موسكو عن باطن نية واشنطن فيها منذ كانون الأوّل/ ديسمبر 2018 على لسان نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف بأنّ واشنطن مصمّمة على الانسحاب من معاهدة الصواريخ لرغبة في التخلص من قيود لا تناسبها، وهذه هي النية المضمرة التي حملها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى اجتماع بروكسل في 4 كانون الأول/ ديسمبر من العام الفائت مع وزراء خارجية الناتو، بل ما يكمن من مخاوف أميركية بات أعمق من القلق، والتطوّر الذي أحدثته واشنطن في فنزويلا يهدف الى توسيع النفوذ في استهداف حليفة روسيا في أميركا اللاتينية، فهي الخطوات الاستباقية لتكريس المواجهة مع موسكو وطهران في محاور بعيدة عن العاصمتين جغرافياً، حيث لا يملكان تواجداً عسكرياً فيها كما في سورية، التي اعتبر ما يسمّى التحالف الدولي انّ مصالحه قيد التهديد روسياً في سورية، والتوجه نحو تعزيز العلاقات مع أنقرة ربما لضمان عدم خروجها كلياً الى محور سوتشي الذي تتمحور فيه روسيا وإيران بعيداً عن متناول واشنطن التي تتمسّك بعد الانسحاب من سورية ببقايا «قسد» الخارجة ميدانياً وسياسياً عن أجندة واشنطن وتل أبيب في الشرق السوري.
كما أنّ بكين ليست بعيدة عن هذه الرسائل الأميركية، وهي التي لا تزال في كباش اقتصادي مع واشنطن التي تحاول التقرّب إرهايباً من الوسط الآسيوي في محاولة لتطويق الطريق الذي يتقاطع مع موسكو وطهران الى بكين، والتي رفضت انسحاب واشنطن من معاهدة الصواريخ القصيرة والمتوسطة، فالتدافع الأميركي لتوجيه الرسائل المعسكرة يهدف في باطنه الى إجبار أوروبا بالاعتماد على الحماية الأميركية خاصة بعد إعلان الاتحاد الأوروبي عن إنشاء ما سمّي «الجيش الأوروبي» ما بين فرنسا والمانيا، والذي اعتبرت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل في 13 كانون الأول/ ديسمبر 2018 أنه جيش لا يتعارض مع الناتو، فالمخاوف الأميركية لم تسعفها السياسة الداخلية الملتهبة ديمقراطياً، كما لم تسعفها السياسة الخارجية التي أخرجتها ولو بالإعلان من سورية، ولم تسعفها التحالفات التي تحاول التملص منها بعد الغرق في مستنقع اليمن والعراق، وهي مخاوف تحاول واشنطن عسكرة رسائلها ولو بظاهر يحمي ظهر الكيان الصهيوني لمدة لا تبدو بعيدة، فليس التناحر الداخلي الأميركي وليد «حائط المكسيك» فقط، وليس التهالك الخارجي وليد المستنقعات الشرق أوسطية فقط، بل التمادي في السياسة الاقتصادية القائمة على نهب المقدرات لجني المال هي التي تفكك مفاصل الداخل والخارج الأميركي الذي لا يعتمد في سياسته سوى الوجهة «البولتونية» التي غلفت سياستها برسائل المواجهة المحتدة… فهل ما جمعته واشنطن من مال الحلفاء كاف لقيادة تلك السياسة؟!