ما العمل… معضلة التغيير وسبل المواجهة
ابراهيم ياسين
التظاهرات الأخيرة التي حصلت في بيروت وشاركت فيها بعض القوى السياسية والنقابات والهيئات وشخصيات مدنية ووطنية لم تأت بالمستوى الذي كان يأمله البعض من الدّاعين للتظاهرات لناحية حجم المشاركة الشعبية من خارج القوى السياسية ومناصريها المباشرين وكشفت الضعف القائم لدى «قوى الإعتراض». ولوحظ بأنّ أعداد المشاركين اقتصرت على الحزبيين منهم والمناصرين لها فيما لم تكن هناك مشاركة «كبيرة واضحة» من قطاعات شعبية متضرّرة من السياسات الحكومية الإقتصادية والإجتماعية والخدماتية على الرغم من الشكوى العامة التي نسمعها من المواطنين أينما كانوا أو عبر وسائل الإعلام لدى سؤالهم من قبل مراسليها. ويفتقد هذا الحراك للمشاركة الشابة والطلابية الواسعة والضرورية وهم وحدهم من يقدر على دعم هذا الحراك بالمشاركة الفعّالة لأنهم من المتضرّرين الأوائل مما يجري من تقسيمات ومحاصصات وفساد وبطالة تدفعهم للهجرة إلى خارج البلاد… وهي معركتهم في استنهاض هذا الحراك ليأخذ طريقه لتحقيق الأهداف المشروعة لكلّ المواطنين، بعيداً عن منظومة النهب والفساد المتمثلة بأركان السياسة والمحاصصات الطائفية.
وقد لوحظ بأنّ الدعوة لمثل هذه التظاهرات لم يسبقها قراءة معمّقة للواقع اللبناني وللأزمة التي يشهدها لبنان. هل هي وصلت إلى مرحلة يمكن القول معها إنّ غالبية المواطنين باتوا على استعداد للنزول إلى الشارع من أجل رفض هذه السياسات الحكومية، أم أنّ الأمر لم يبلغ بعد هذه المرحلة، وأنّ الاستقطاب الطائفي والمذهبي لا يزال هو السمة التي تُحرك معظم اللبنانيين، وهوما تجسّد أخيراً في نتائج الإنتخابات النيابية.
هذه التساؤلات والملاحظات خيّمت على التظاهرة الأخيرة في بيروت، وأشّرت إلى أنّ ما هو مطلوب اليوم من القوى التي لها مصلحة في النضال من أجل إحداث تغيير في «السياسات الإقتصادية والإجتماعية المنحازة إلى جانب الرأسمالية الريعية» التي تمتصّ الثروة الوطنية، وتزيد من معاناة وإفقار اللبنانيين… ما هو مطلوب أن تجري عملية نقاش حقيقية من قبل هذه القوى لمعضلة التغيير في لبنان، وقراءة الواقع بنظارات درجتها «مضبوطة» تسمح لمن يستعملها القراءة بشكل صحيح وواقعي، واستنباط الحلول الواقعية والممكنة وتحديد الشعارات والأهداف الراهنة لأيّ تحركٍ، واختيار التوقيت الملآئم لأيّ تحركٍ في الشارع حتى لا يصل إلى طريق مسدود، ويؤدي إلى نتائج عكسية وإحباط ويأس لدى جمهور هذه الأحزاب، وأيضاً لدى المواطنين المتضرّرين… وأيضاً المطلوب ضرورة أن لا يقتصر مثل هذا النقاش على جزءٍ من القوى التي لها مصلحة في التغيير، بل يجب أن يشمل كلّ من هو مستعدّ ويتبنّى رؤية تغييرية، أو من له مصلحة في التغيير.
إذاً، الأولوية لدى القوى صاحبة المصلحة الحقيقية في النضال من أجل التغيير السياسي والإقتصادي والإجتماعي، تبدأ من التقاء هذه القوى لبلورة رؤية شاملة مشتركة ومُعمّقة لواقع الأزمة وكيفية طرح برنامج واقعي يستجيب للقضايا الضاغطة التي تهمّ اللبنانيين، ووضع الخطط لتعبئتهم وقيادة نضالهم من أجل تحقيق مطالبهم، والمراكمة عليها لتعزيز خط التغيير في البلاد، طالما أنّ الأمر يحتاج إلى تدرّج في العملية النضالية للتغيير ومراكمة نضالات وتحقيق مكاسب جزئية توصل في لحظة معينة إلى تحقيق الهدف الأساسي وهو إحداث تغيير في هذا النظام الطائفي وسياساته الجائرة اقتصادياً واجتماعياً، وأيضاً تغيير السياسات التي ترهن لبنان للوصاية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية لأنه لا يمكن الفصل ما بين النضال لتحقيق التغيير والنضال من أجل تحرير لبنان من التبعية الإقتصادية والسياسية للدول الغربية الإستعمارية.
ذلك أنّ أيّ خلل أو فصل بين الأمرين يوقع قوى التغيير في ثغرة حقيقية في نضالها لتحقيق أهدافها، فهل مثلاً يمكن أن يكون هناك تغيير للسياسات الإقتصادية والمالية بدون تحرير لبنان من الإملاءات والارتهانات للعقوبات المالية الأميركية، أو لشروط الدول المانحة، وصندوق النقد الدولي المعبّر عنها في مؤتمرات باريس الأربعة التي عقدت سابقاً.
من هنا فإنّ الربط بين النضال السياسي التحرّري والنضال الإقتصادي الإجتماعي، ضرورة لا يمكن بدونه أن يتحقق هدف التغيير المنشود، عدا عن إمكانية تعبئة وحشد الجماهير في إطار هذه المعركة الوطنية والإجتماعية التحررية.
إذاً، بدون تحالف جميع قوى التغيير والتقائها على رؤية مشتركة بعيداً عن الذاتية والأنانية والحزبية الضيقة العصبوية، رؤية تنطلق من قراءة علمية موضوعية للواقع وطبيعة الأزمة والمعضلات التي تواجه عملية التغيير في لبنان، لا يمكن لأيّ حراك شعبي من أن يصل إلى نتيجة في تحقيق أهدافه، وسيبقى قاصراً ومجتزأً فاقداً للرؤية والأهداف الواضحة والآليات العملية التي يحتاج إليها.
إنها دعوة صادقة لجميع القوى المؤمنة بالتغيير الحقيقي كي تلتقي وتناقش بروية، طبيعة الأزمة المركبة والبنيوية التي يعيشها لبنان والتوصل إلى رؤية متكاملة وبرنامج عمل.