إضاءة
محمد رستم
نشرت الشاعرة المتألقة سعاد محمد ديوانها الثاني بعد ديوان «الغريب» والصادر عن المؤسسة السورية للكتاب بـ»عالٍ هذا السرج»، وهو معنون يشي بدخول مملكة الشعر من بابها العالي. وكلنا نعلم أنّ العنوان هو العتبة التي نلج العمل الأدبي من خلالها وهي بؤرة مكثّفة لمجمل العمل… ولغاية بلاغيّة اعتمدت الشاعرة التقديم والتأخير في التسمية لعلها تقصّدت أن تغدو الجملة أكثر بهاء، وللفت النظر إلى العنصر الأكثر أهميّة والعبارة. هنا تنفتح على مسارب التأويل. لعلّها عنت بذلك صهوة الشعر السامقة، وتتنوّع المحاور الدلالية في الديوان.. من محور الشهيد إلى المحور الاجتماعي إلى محور الوطن وغيرهما.
المحور الأهم الذي تدور معظم القصائد في فلكه هو محور علاقة حواء بآدمها، وتكاد القصائد تشكّل ملحمة واحدة مع عزف منفرد على بعض التنويعات في جوانب هذه العلاقة.. ولا بدّ من التنويه منذ البدء إلى أنّ الشاعرة سعاد وإن تحدّثت بلسان أناها، مسلّطة الضوء على خصوصية معينة ابتكرتها فإنّها كأي مبدع لا يتقصّد بحبره خصوصيّته الذاتيّة بل يعني شريحة واسعة لها المعاناة ذاتها، وإلّا لكان الأمر شخصانياً لا يعني الآخرين . وهي هنا تمثّل الضمير الجمعي للجنس اللطيف. لذلك فإنّنا نعتبر ديوان «عالٍ هذا السرج» إنّما هو رسالة من تاء التأنيث إلى آدمها. هي صورة حواء في توقها اللاهب لنصفها الآخر منذ حكاية التفاحة وإلى مالا نهاية، تقول: «بيني وبينك تلال من اللهفة.. وقصيدة تطلب اللجوء»، وتجري الشاعرة مقارنة مؤلمة بين قلبها الملتهب شوقاً والمتّقد اشتهاء نحو شريكها والذي غدا هاجسها المتوثّب بينما يرمي حضورها في غياهب الإهمال والتجاهل.. «تعبت من ملاحقة هذا النشيد الهارب… منسيّة أنا على شفا كلمة.. واسمك هتاف حين تفيء الغابة إلى هواها»، مع أنّها ترى فيه الملهم الذي يأخذ بمجامع القلب «لك حظوة الوحي.. وتسلط الحظ.. لك أتباع من ورد وباع من نجوم.. لك حفاوة الفاتحين لغابات الحسن»، وكأنّها تقول إن الحياة بلا آدم منقوصة النبض.
وتمضي في الإعلاء من شأنه، فهو أميرها وفارسها المتحكّم بلجام حواسها، «لك مصاف الإمارة على جوارحي.. وخمّارة آهاتي.. ولي نكبة الأسر فيك».
ومع ذلك فليس لها إلّا أن تتجرع مرارة الانكسار من آدمها الذي يسدّ أذني عاطفته بأصابع اللامبالاة فتغدو، «ككلّ النساء المنكوبات.. اللواتي يلمّعن العتمة لتبرق ضحكة».. هي موجوعة ومفجوعة حدّ الترمّد كيف لا وقد قذف بها الصدّ إلى ملكوت الاحتراق.
إنها في الوقت ذاته حواء التي تأبّطت آدمها. وهي تكتنز رغبة أنثويّة عارمة في بناء علاقة تعادليّة معه يتماهى فيها رافدا الحياة علاقة تكامليّة أساسها حاجة النصف إلى نصفه الآخر، لا علاقة تفاضليّة، تناحريّة… هي علاقة احترام الآخر والذوبان فيه، «تعالَ تمسّح بقلبي.. وتبعثر لألمّك، ثمّ أجدني ضارعة بين يديك».
والأنثى وإن أظهرت اللين فهي تمتلك كلّ عناصر القوة فتبعث برسالة تحذيرية كي لا يدخل الذكر الساحات الرمادية المراوغة، «لا تقامِر بي يا آدم… فأنا شجرة التفاح.. والله لأردمنّ بحرك إن رمشت غيري»، «أعيذك من مكر الثعالب.. إن كاد لك ليلي..» وتحذر مما لديها من قوة، «أنا التي إن خاضت البحر ترمّد».
والعلاقة هذه ليست عطر غرام خياليّ يضوع في فضاءات الرومانسيّة بل حقيقة حيّة تتجسّد على تضاريس الواقع. لذا فهي ترغب أن تبقي روحها مصلوبة على خشبة آدمها وهي تحمل صليب توقها على درب جلجلة الذكورة..
وتدرك أنّها الأنثى الأمّارة بالعطر وأنها تفرش هذا الكون بسبع سموات من العشق. وتعلم أنّ النساء هن فتنة الله الغاوية بالأريج على أرضه.. وكل ما تصبو إليه أن تتفلّت بعض الشيء من عنكبوت الوصايا الاجتماعية.. تلك الوصايا التي جعلت منها ضلعاً قاصراً.. وكائناً غير مكتمل بل هي متاع.
وبجرأة المنفتح على معطيات المجتمعات الحديثة، تقترب أحياناً مما يرى فيه المجتمع الشرقي خطوطًا حمراء، فترسم على كيان القصيدة دوائر الجسد لحظة التوق والحريق، «كم سها التاريخ حين قال.. لم يعد فيّ من نبيّ.. أشهر عينيه وقلبي أعزل.. وزوّق على جسدي حانة نوايا.. لم أعد أرملة القصيدة».
وبمواربة ذكية وبمجاز رهيف توضح كيف تتهاوى حصون الأنثى لحظة اللقاء الحار إذ تستسلم لتيار الرغبة العاصف بتأثير أعاصير التوق.. «مزقت قطة الجيران رعد الستارة.. قميص القشعريرة فقد مناعته… ونفرت أزرار الدمع.. تبسّمت شامة صيف مخمور.. على خد ألف سنة من اللهفة.. قال: ما زلت يا بنت غشيمة هوى.. سأعود لأعلّمك الحريق. وبريشة فنيّة ساحرة تبيّن كيف تفور الرغبات ويتنامى الانتعاش لحظة القبول، «ترتطم الفصول ببعضها.. يسيل شتاء عن أكواع صيف.. ويسدل ربيع ستائره على عيني خريف.. فأنضج كدراقة تسحّ بالسكر. على غصن رجولتك.. ينشف دم الكلمات.. بحقك لا تنقذني.. دعني أنسلّ فيك كسمكة».
إنّ كل إشارات النصوص وأبعادها الدلاليّة تشي بأنّ العلاقة المنقوصة بين حواء وآدمها هي الرحم الذي ولدت منه نتيجة تقصف أوتار تلك العلاقة تاركة خواء روحياً ونفسياً مزلزلاً. والمؤدّى الفني في الديوان يظهر مقدرة فائقة لدى الشاعرة سعاد محمد إنها تغرف من نبع الخيال وترسم لوحات نابضة بالحياة معتمدة الغموض الشفاف لذا تعتبر بحق ظاهرة أدبية. فهي تهتمّ بانتظام أنساق بنيتها الشعريّة مما يحقق الأداء التعبيري وذلك باستخدام دوال دافئة في تراكيب جديدة تقيم تعالقات لغوية مبتكرة، وذلك بانزياحات جديدة وصور بكر فتخلق عالماً حسيّاً عبر ممكنات الخيال والعاطفة.. مما يثير الدهشة ويترك في الذاكرة عطراً يدوم طويلاً.. وبذلك تضع اللغة باعتبارها كائناً حياً في مضمارها الإبداعي كاشفة عن طاقاتها المتفجّرة، وما يميّزها أنّها تنأى بقاموسها عن المفردات التي فقدت لونها لكثرة الاستخدام.
وقد تبني مداميك قصيدتها من لوحات صغيرة وبألوان مختلفة كقطع الفسيفساء، «إله زاهٍ، يفطم ملائكة سلام.. صلاة تعمل داية للأماني.. نجمة تعثّرت..». وقد تتكئ على الأجناس الأدبية الأخرى مثل الحوار المسرحي أو السرد الحكائي وهو ما يلحق الغبن بالجملة الشعرية لديها.. أخيراً لا بدّ من القول، إن الشاعرة سعاد محمد هي نجمة في سماء الشعر لا تخطئها عين وتنتمي إلى أسرة الشعر بالأصالة لا بالتبني ولا بالوكالة.
كاتب سوري