المراوغة التركية وعصا السيادة السورية
ناصر قنديل
– لم تتوقف تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية من الترويج لمفهوم حق التعقب والتوغّل واستباحة مفهوم السيادة لدول الجوار تحت شعار أولوية الأمن القومي للدول على التزامها باحترام سيادة جيرانها. وسعت تركيا عبر ممارستها هذا التعقب والتوغل في كل من سورية والعراق إلى تكريس سقوط مبدأ السيادة كواحدة من ركائز العلاقات الدولية والقانون الدولي، وهو سعي ينسجم مع معايير الحرب الاستباقية القائمة على إطاحة مبدأ السيادة وهو ما شكل عنوان الحروب التي خاضتها واشنطن، فكان تموضع قواتها والتحالف الذي تقوده تحت عنوان الحرب على داعش في سورية دون السعي للتنسيق مع الدولة السورية والحصول على موافقتها، ليس فقط بداعي الاعتبارات السياسية المتصلة بطبيعة العلاقة المتأزمة مع الدولة السورية بل انسجاماً مع السعي لتكريس حق استباحة مفهوم السيادة ضمن منهجها لنظرية الحرب الاستباقية.
– منذ ظهور العولمة على الساحة الدولية كمنظومة سياسية اقتصادية جديدة، باعتبار التأثير المتبادل لدول العالم على بعضها ورفض الانعزال بينها ليس حدثاً دولياً جديداً. وهناك محاولات لا تتوقف عن التبشير بنهاية زمن السيادة الوطنية للدول، وتسخر من كل حديث عن مفهوم الاستقلال الوطني، والتسويق لنظرية مفادها أنه بموجب الإقرار بسقوط السيادة والاستقلال، فالدول الذكية هي التي تبادر بالتنازل عن سيادتها طوعاً للتموضع في حلف سياسي اقتصادي يلبي مصالحها، طالما أن معيار السيادة والاستقلال قد أصبح شيئاً من الماضي، وجاءت الحرب على سورية في جانب رئيسي منها محاولة لتسويق هذا المفهوم. فالشؤون الداخلية للدول لم تعد داخلية، والتدخل في شؤون الدول لم يعد انتهاكاً للقانون الدولي، والتموضع العسكري فوق أراضيها لا يحتاج موافقة صاحب الأرض، وصولاً إلى اعتبار استجلاب مئات آلاف المسلحين من أنحاء الدنيا والزجّ بهم في جغرافيا دولة ذات سيادة أمراً مشروعاً، وفي جانب رئيسي من مواجهتها خاضت سورية دفاعاً عن حقها وحقوق دول العالم المعرّضة والمهدّدة بانتهاك سيادتها، معركة رد الاعتبار لمفهوم السيادة والدولة الوطنية، والاستقلال الوطني والقرار الوطني المستقل.
– نجحت سورية في فرض قواعد الاشتباك التي رسمتها لحروبها بوجه كل أشكال الانتهاك والتطاول على السيادة السورية، وفرضت ردّ الاعتبار لمفهوم السيادة كركن من أركان قواعد حفظ الأمن والسلم الإقليمي والدولي، وقد جاء كلام الرئيس السوري بشار الأسد عن التمييز بين تعرّض البعد المادي للسيادة الوطنية للانتقاص خلال الحرب جغرافيا أو عملياً عبر التدخلات الأجنبية والهجمات الإرهابية، إلا أن الأهم هو عدم استعداد الدولة السورية لشرعنة هذا الانتهاك أو للصمت عنه، وإصرارها على التمسك بسيادتها، وبقرارها المستقل، وعندما بدأت الانتصارات التي تحققها سورية مدعومة من حلفائها تتحول مساراً ثابتاً في مسار معارك المواجهة في سياق الحرب، وصارت رقعة الجبهات الجغرافية تقترب من الحدود، كان على الذين اجتاحوا الحدود وضربوا عرض الحائط بمفهوم السيادة الاختيار بين مواجهة مفتوحة لا سقف لها ولا ضوابط ولا قواعد اشتباك، أو الانكفاء وراء قواعد رسمها القانون الدولي ترسم قواعد اشتباك وتشكل إطاراً للأمن الإقليمي والدولي، ومثلما كان هذا حال كيان الاحتلال الذي أعلن سلفاً سقوط اتفاق فك الاشتباك الموقع عام 1974 على جبهة الجولان وسلم مواقع المراقبين الدوليين لجماعات جبهة النصرة، معلناً أنه يأتمنها على حدوده الشمالية، وأنه يسعى لحزام أمني داخل الأراضي السورية، وجد قادة الكيان أنفسهم مجبرين على الاعتراف بأن العودة إلى اتفاق فك الاشتباك أقل الخيارات مرارة، بما فيه من اعتراف العودة للتعامل مع معادلة السيادة السورية، وبعدهم جرّب الأميركيون واستعصى عليهم البقاء دون الحصول على موافقة الدولة السورية فشكل انسحابهم إقراراً ضمنياً بتفوق مفهوم السيادة على مفاهيم العولمة وحق التعقب وحق التوغل، والحرب الاستباقية.
– جاء دور تركيا بعد طول مراوغة، حيث لا تزال محاولات التمرد على معادلة السيادة السورية وفرض منطق التوغل والاستباحة ضمن معادلة أولوية الأمن القومي على سيادة دول الجوار، فجاء كلام الرئيس الأسد العالي النبرة، رسالة ردع تبعتها شروحات مفيدة من الحلفاء عن مخاطر مواجهة سورية تركية بعد الانسحاب الأميركي من شرق سورية ما لم يتم الالتزام بمقتضيات السيادة السورية واعتبار اتفاق أضنة القائم أصلاً منذ العام 1998 إطاراً لقواعد اشتباك تصلح لتنظيم الوضع الحدودي بين سورية وتركيا، تضمن من جهة الأمن القومي التركي ومن جهة مقابلة السيادة الوطنية السورية، فكان النزول التركي عن الشجرة بصمت، عبّر عنه وزير الخارجية الروسية بإعلانه موافقة تركيا على اعتماد اتفاق أضنة كصيغة صالحة لتنظيم الوضع الحدودي مع سورية.
– المعركة الثقافية والفكرية التي خاضها الرئيس السوري دفاعاً عن مفهوم السيادة والقرار المستقل لا تقلّ شأناً عن قيمة المعركة التي خاضها دفاعاً عن سورية كجغرافيا وناس وعمران ومستقبل، وسيشهد العالم بفعل نتائج الحرب السورية صعود مفهوم الدولة الوطنية مجدداً على حساب محاولات الاستباحة التي تمّ تسويقها تحت شعار العولمة وسقوط الحدود بين الدول و«العالم قرية صغيرة».