الزواج المدني في لبنان للأغنياء فقط!
د. وفيق إبراهيم
قضية الزواج المدني ليست مسألة عابرة يكتفي فيها «المناصر» بإعلان تأييده وسرعان ما يتراجع منكفئاً تحت ضغط الاعتراضات الدينية والسياسية، فتوضع المسألة مجدّداً في دائرة النسيان إلى موعد آخر.
أهمية هذه القضية أنها تمسّ في ظاهرها الأمن الاجتماعي للناس. وهذه مسألة أساسية لأنها تصيب في العمق النظام السياسي وشريكها النظام الديني اللذين يلويان أعناق المجتمع ويعطلان تطور أفراده بذرائع غير معاصرة، مطلقين عليهم فتاوى المرجعيات الدينية الإسلامية والمسيحية، فيجد المواطن نفسه بين خيارين أحلاهما «زفت وقطران»: إما «خلافة داعش» والاتجاهات المحافظة عند المذاهب الأخرى أو «خلافة» النظام السياسي اللبناني وشركاه التي لا تقلّ «داعشية» متوارية.
للتوضيح فإنّ كلّ الطوائف والمذاهب، حتى في أجنحتها المعتدلة، تعتبر الزواج المدني مخالفاً لأنظمة الزواج الدينية. كذلك لا تعترف به أبداً، وبناء عليه لا تعتمده أنظمة الأحوال الشخصية في لبنان وتمنع عقده في كلّ المحاكم الشرعية للطوائف.
هذا ما يدفع بعض اللبنانيين واللبنانيات من الميسورين وذوي الثراء إلى عقد زيجاتهم في قبرص المجاورة التي تتبنى قوانين الأحوال الشخضية فيها الزواج المدني، فيعقد هذا اللبناني «القادر» زواجه ويعود إلى لبنان. فتجد وزارة الداخلية نفسها مضطرة لتسجيله مدنياً لاعترافها بأنظمة الزواج المعمول بها في قبرص.
أما المضحك هنا فهو أنّ الأطفال الآتين من هذه الزيجات المدنية يُدرجون في لبنان على المذاهب الأصلية لأهلهم «المدنيين».. أليس هذا «اللبنان» بلد العجائب؟ وللأغنياء فيه الحق بكل شيء، بما فيه التحايل على القوانين السياسية والدينية.
هذا طبيعي نظراً للتحالف العميق في لبنان بين نظامه السياسي وأهل المال بمباركة من أقطاب الدين. وهكذا يجتمع الدين والدنيا في نفس الدستور العجيب.
للمزيد من الإضاءة، هناك 4,5 مليون لبناني إلى جانب مليون ونصف المليون سوري ونصف مليون فلسطيني يتعايشون في القسم المأهول من لبنان أي على نحو 6 آلاف كيلومتر مربع من أصل 10425 كيلومتر مربع، ويتفاعلون حياتياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وأمنياً على هذه الرقعة الضيقة، فكيف يمكنهم إلغاء العواطف والمصالح والاستسلام فقط لأحكام أديانهم التي تحظر عليهم الزواج من الآخرين المختلفين معهم دينياً، فهذا العيش الواحد مستولد للعواطف والأحاسيس، فكيف نسمح به تجارياً واقتصادياً وسكنياً ونمنعه على مستوى الزواج؟ وكيف أوجدت الدول في العالم حلاً لمشكلات التعدُّد الديني ونظّمته على نحو يؤمن استقرارها الاجتماعي والسياسي ولا نفعل نحن؟
يجب إذاً الفصل بين مصالح النظام السياسي وحاجات الناس، لأنّ الله واحد لكلّ البشر، ولا يحق للمراجع الدينية التحول إلى أدوات في سبيل دعم السياسة، بأيّ حال فإنّ السياسة والدين متضامنان على كلّ المستويات لأنّ انتفاعهما مشترك من الإمساك بالنظام. فإذا كان منع الاندماج بين فئات اللبنانيين من المصالح الأساسية للنظام السياسي وهي تؤمن استمراره وهيمنة قواه الأساسية فإن الكهنوت المسيحي والإسلامي مستفيد، بدوره، من رفض الزواج المدني.
فهل يعرف اللبنانيون أنّ 60 مليار ليرة لبنانية 40 مليون دولار تخصّصها موازنة الدولة للهيئات الدينية سنوياً ومعظمها يذهب للمراكز الدينية الإسلامية؟
هناك مصلحة إضافية تتعلق بكلفة عقود الزواج والطلاق التي يقبضها رجال الدين من كل الأطراف، وهذه بمفردها تؤمن رواتب محترمة لمحترفيها من رجال الدين.
إنّ لرجال الدين، كما لرجال السياسة، مصلحة في تكريس الانقسامات الاجتماعية، إنما ليس إلى درجة انفجارها، فليتصور الناس كم يجني رجال الدين من ممارسة شعائر وطقوس في حفلات التبريك والولادات واستجلاب رحمات رب العالمين، وزيارات المواقع المقدسة عند كلّ الفئات ومن دون استثناء.
فكيف يمكن أن تسمح بتحولات تقضي عليها في مدى متوسطة؟ فالموافقة الرسمية على الزواج المدني في لبنان تعني وجود «طائفة جديدة» ما يتطلب إدراجها دستورياً في نظام المحاصصات السياسية والإدارية..
أما اللجوء إلى خيار آخر فيشكل حرباً على الموجود المعمول به، ويتعلق بإلغاء الطائفية السياسية من النظام، وهذا ليس معقولاً لأنّ الطبقات الرابحة لا تتنازل عن مكاسبها إلا باختلال موازين القوة.
فإذا ما جرى الاعتراف بطائفة المتحدّرين من «زواج مدني» فهذا معناه وضع عنصرين متناقضين إلى أقصى درجة ضمن نظام سياسي واحد، الأول طائفي والثاني مدني، وهذا غير مسبوق في حركة التاريخ ويؤسّس لانفجارات لاحقة. لأنّ وجود حلّ قانوني للزواج المدني لا يُعاقب عليه القانون، يؤدي تلقائياً إلى سرعة الطلب عليه من المتردّدين المذعورين من عقاب مرجعيات طوائفهم. فيزداد عديدهم ووزنهم الاجتماعي ـ السياسي ما يتيح لهم حشر النظام الطائفي في زوايا ضيقة.
لذلك، فإنّ الإجابة عن أسباب رفض الدين والسياسة في لبنان للزواج المدني تتعلق بإصرار أصحاب النظام السياسي وشريكهم النظام الديني في المحافظة على النظام الحالي الذي يُعتبر أفضل آلية للمحافظة على الانقسامات الاجتماعية الدهرية بما يجعلها تبدو حقيقة تاريخية وجزءاً من التراث اللبناني المتقاطع مع تأسيس لبنان، أي إنّ الانقسام الطائفي خالد مثل الأرز وجيولوجيا الجبال في الأودية المقدسة والهضاب كما تروِّج أساليب التحشيد الدينية عن أولياء وأئمة وأنبياء وقديسين مروا من هنا وباركونا على ما نحن عليه ويجب أن نبقى عليه كما تقول الروايات الدينية للطوائف.
انطلاقاً من ذلك، يتبين مدى الصعوبة في اعتماد الزواج المدني الاختياري رسمياً داخلياً لأنه تأسيس بمدى متوسط لانهيار النظام السياسي الحالي. والحلّ موجود في تحركات شعبية كبيرة، لا يبدو حالياً، أنّ الأطُر المنظمة لها موجودة من نقابات وأحزاب وأدوات ضغط أخرى.
فيبقى هذا الزواج المدني حكراً على أغنياء لبنان يعقدونه في قبرص حتى اكتمال الشروط الشعبية الدافعة في اتجاه تطبيقه في بلد العجائب، بالقوة فقط وليس بتمنيات الوزيرة ريا الحسن وإرهاصات الطبش.