بوتين يعلن المواجهة ويبدأ سباق تسلُّح
سماهر الخطيب
شكّلت التصريحات المتتالية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومواقفه من القضايا الشائكة، على الصعيد العالمي، انقلاباً تاريخياً في الاستراتيجية الدولية، التي أظهرت بأنّ القدر لا بدّ أن يعطي كلمته ليسطّرها تاريخ البشرية الحافل بالنزاعات والصراعات، ومَن يمتلك القوة لديه الفرصة السانحة للتأثير في التاريخ، وبالنتائج، لبرهنة عظمته أو محدوديته.
أثارت مواقف بوتين وتصريحاته الكثير من التساؤلات ودفعتا الكثير من المحللين نحو إطلاق توقعات حول مستقبل روسيا الاتحادية المرهون بالعظمة التي يتمتّع بها بوتين الذي يحظى بدعم غير محدود في المجتمع الروسي، لا بل والعالمي وهذا يعني أنه يستطيع متابعة مساره الاستراتيجي بثقة.
وإذا ما تطرّقنا إلى العلاقات الروسية الأميركية فقد أعلن بوتين بالأمس أمام الجمعية الفيدرالية رغبة موسكو في أن تكون ودية، وهو الأمر نفسه الذي أعلن عنه منذ توليه السلطة عام 2000، أي استعداد روسيا للتعاون الوثيق مع الولايات المتحدة في جميع المجالات، لكن بشريطة أن يكون هذا التعاون مفيداً وعادلاً لكلا الطرفين.
بَيْد أن الرفض الأميركي لأفكار التكامل مع روسيا توارثه الرؤساء الأميركيون الواحد تلو الآخر، وأرادوا دولتهم متميّزة واستثنائية لا بديل عنها، بسياسات انتهازية ونرجسية، فنجدهم وقد نشطوا في توسيع الناتو وإسقاط الأنظمة غير المرغوب بها، بالنسبة إليهم، وإثارة القلاقل في العالم كدعم الانقلاب في أوكرانيا وفنزويلا وغير ذلك من التصرّفات الأخرى غير المسؤولة.
وفي العودة إلى بوتين صاحب المعادلة الصعبة في لعبة التوازنات الدولية، نذكر أنه وقبل سبعة وثلاثين عاماً كان الاتحاد السوفياتي أقوى اتحاد للدول في العالم وبحلول عام 2000 تنبّأت معظم مراكز الدراسات والصحف العالمية، بأن يتمكّن الاتحاد السوفياتي الممزّق من إزالة الضرر والتعافي للعودة إلى الساحة الدولية من جديد كـ»لاعب قوي» نال جرعات العلاج الشافي، وإن لم يكن الاتحاد فلتكن وريثته الدولية «روسيا» في عهد بوتين تحديداً الذي ما أن تسلّم دفة القيادة حتى بدأ العدّ التنازلي للعودة وتحديث روسيا لمواكبة القرن الجديد.
وفي أقوى تصريحاته، حتى الآن، بشأن سباق معاهدة الصواريخ، قال بوتين أول أمس إنّ «ردّ فعل موسكو على أي نشر للصواريخ سيكون حازماً»، مضيفاً أنه «يتعين على صناع السياسة الأميركيين حساب المخاطر قبل أية خطوة».
وبالرغم من أنه أكد أنّ «روسيا لا تسعى إلى المواجهة ولن تبادر بنشر الصواريخ رداً على قرار واشنطن»، إلا أنّه كان لافتاً الحديث الوافي للرئيس الروسي عن التطور في الصناعات العسكرية والتكنولوجية الذي وصلت إليه بلاده اليوم، التي بدأت، في بعض الأحيان، من الصفر، محققة قفزة نوعية في المجال الدفاعي، ومكملة مسيرتها في طريق وعرة، موجدة حلولاً جريئة، لا بل فريدة من نوعها، لا سيما في وصفه سرعة الأسلحة الروسية الواعدة التي تسمح بـ«وضع حاملاتها في مياه محايدة، ولا حاجة إلى وضعها بالقرب من شواطئ دولة معينة»، بحسب قوله.
بالإضافة إلى ما سبق، هناك معلومات أخرى يجب على الأخصائيين فهمها، وهي أنّ حديثه المفصّل عن «الصاروخ الأسرع من الصوت تسيركون على السفن الحربية وإنزال أول غواصة نووية مسيرة حاملة للصواريخ وتطوير منظومة الصواريخ أفانغارد »، يدلّ دلالة واضحة على أنّ روسيا تخوض اليوم مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة على مستوى الحضور في الساحة العالمية، ويظهر ذلك جلياً
في توجيه الرئيس الروسي دعوة إلى العالم لرؤية «أين ستكون حاملات الصواريخ»، التي قال إنها «حاملات بحرية غواصات أو سفن سطحية، يمكن وضعها مع مثل هكذا سرعات ومدى استخدامها»، وليس من الضروري فقط «في المياه الإقليمية، أو حتى في أية منطقه اقتصادية خاصة لأية دولة معينة، إما في المياه المحايدة، أو ببساطة في المحيط».
وختم بوتين بالقول: «من حقهم أن يفكروا كما يشاؤون. لكن هل يستطيعون الحساب؟ أنا متأكد من أنهم يستطيعون. دعوهم يحسبون سرعة ومدى أنظمة الصواريخ التي نطورها».
هذا الخطاب انتهى بنداء سيُولَ مع ما يستحقه من انتباه، خاصة عندما قال بوتين: «ستضطر روسيا لصنع ونشر أنواع من الأسلحة التي يمكن استخدامها ليس فقط مع تلك المناطق التي ينشأ منها التهديد المباشر لنا، وإنما مع المناطق التي توجد فيها مراكز اتخاذ القرار أيضاً».
ونذكر هنا عندما قال هنري كيسنجر بأنه «شديد الوعي وفائق الذكاء» لا يتقبّل عدم المبالاة بروسيا والتهجّم عليها.
ما فعله بوتين طوال تلك السنوات هو فرض الوجود الروسي على الساحة الدولية، ولكن ليس كما أراده الأميركيون تحصيل حاصل ونائب فاعل، إنما فرض عين لا يمكن تجاوزه ولا يُستثنى فاعله ومفعوله.