الساق المبتورة والتفاصيل المخبوءة..
في زحمة الحياة، ومع تسارع وتيرة الزمن، ندرك جميعاً أنّ العالم بات مريضاً، ساقه اليمنى مبتورة، ويحاول أن يتوازن بساق واحدة لذا يرقص – الفالس – بخطوات خاطئة، وهذه الذكريات ستبقى محفورة في ذاكرتنا مدى الحياة.
هناك دائماً زوايا هامشية أو كما تسمّى ثانوية سواء في حياتنا الشخصية أم في تفكيرنا، بدءاً من طفولتنا الأولى مروراً بمراهقتنا وشبابنا.
هذه التفاصيل الصغيرة والتي نادراً ما ننتبه إليها، لكنّ أثرها واضح علينا وعلى تنشئتنا وسلوكنا. هذا الأثر يعلن عن نفسه دائماً، منبّهاً إيّانا إليها كجرس يرنّ في دواخلنا، ويجعلنا في حالة يقظة دائمة. هذه الأفعال الهامشية بنظرنا لا تعني شيئاً ولا فائدة مرجوّة منها. لكن في حال نظرنا إليها نظرة حيادية نجزم أنّ نتاجنا العقلي لا يمكنه أن يشتغل بعيداً عنها أو بدونها. مع التقدم في السن، نعتقد أنّ الاختبارات المضنية والمتلاحقة في الحياة الشخصية والعامة، هي من استنفدت كلّ طاقتنا بعناوينها الكبيرة متناسين التفاصيل الثانوية التي ساهمت الإسهام الأكبر في تشكلها.
كذلك الإبداع والأفعال العظيمة التي نقوم بها تكون نتيجة تلاقي روافد الهامشي والأساسي في لا وعينا ونقله إلى الوعي المحمّل بالأفكار العظيمة البنّاءة. فالوعي يشتغل من دمج الاثنين معاً. أفكار العقل الواعي وحدها لا يمكن أن تخلق فعلاً إبداعياً، فلبنة الإبداع الأولى تتجلّى في الخيال، ونبع الخيال هو اللاوعي ومسرّبه يمرّ عبر الوعي، ويصبّ في أداء العملية الإبداعية. في جنبات اللاوعي تتراكم الأفكار الهامشية أو الثانوية والتي لا نعبأ بها. رغم أنها تشكل عماد العملية الإبداعية فقد تكون الأداة اللغة أو الصوت أو الموسيقى أو حتى المعادلات الرياضية التي ساهمت في حل كثير من المعضلات العلمية، فتلاحم الأفكار والأفعال الثانوية مع المتن الأساسي هو ما ينتج لنا الأفعال الإبداعية على مختلف أنواعها.
لو استعرضنا شريط الذاكرة منذ أيام الطفولة، المانشينات العريضة ستكون لأصدقاء الطفولة، أسماء بعض المعلمين والمدارس، وأوّل دقة قلب، نتذكّرها جميعاً رغم بساطتها وهي مشتركة بين جميع البشر في عمومياتها. بيد أنّ هناك تفاصيل تحتاج جهداً قليلاً لاستحضارها من مخابئ الذاكرة، تلك التفاصيل الثانوية تمثل الأساس الذي نشأت عليه شخصياتنا الحالية، ولكأنّ الذاكرة تقوم بعملية تصفية فتحيد جانباً كل ما يمكنه أن يقلقنا أو يثير خوفنا. ولكنّها بالطبع لا تستطيع إلغاءه بل ترسله إلى طبقات اللاوعي، ليظهر عندما نستدعيه أو تستدعيه حوادث طارئة، فيظهر على السطح مباشرة. عندما نقرأ بعض الروايات أو كتب السير الذاتية نسأل أنفسنا بتعجّب: كأن الكاتب يتحدّث عنا أو عن تجارب مررنا بها؟
فالذاكرة بلا وعيها ووعيها تشبه الكتاب، وبين ذكرى ونسيان قول وهو الذي يحطّم البحر المتجمّد فينا في حال تجرأنا وكتبناه فيبقى شاهداً على حيواتنا.
صباح برجس العلي