أخلاقيات السياسة قبل المصالح روسيا نموذجاً
د. فايز الصايغ
يشكك البعض بين الفينة والأخرى، بالموقف الروسي من المؤامرة الكونية التي تتعرض لها سورية وشعبها الصامد، ويحاول هؤلاء زعزعة الثقة بين أطراف أو دول التصدّي لهذه المؤامرة، ويشيرون في هذا السياق، إلى انشغال روسيا بالمسألة الأوكرانية وبمصالحها النفطية مع الغرب وبالعلاقات التي تنامت بين روسيا وأميركا في حقبة ما قبل الرئيس فلاديمير بوتين، وتحديداً في حقبة الرئيس السابق بوريس يلتسن المهزوزة أو غير المستقرة.
إنّ كلّ من يعتقد أنّ الموقف الروسي مما يجري في سورية، يرتبط بمصالح آنية معينة خاضعة للتحول والتبدّلات كما هي حال سياسات الغرب الاستعماري والولايات المتحدة الأميركية، يجافي الحقيقة، ليس لأنّ المواقف السياسية الروسية طوباوية مثالية تنتظر الثواب من السماء عند الاستحقاق، ولا لأنّ الروس لا تهمّهم المصالح، بل على العكس تماماً هم يبحثون عنها في أربع أرجاء الأرض، لكنّ التاريخ الروسي لم يسجل حالة استعمارية ولا رغبة روسية في احتلال أراضي الغير ولا السطو على ثروات الشعوب، ولم يسجل أنّ روسيا الحديثة أو الاتحاد السوفياتي السابق مارسا الغزو العسكري، إلاّ في إطار الدفاع عن النفس أو التصدي لغزو الآخرين. كما أنّ روسيا دولة شاسعة مترامية الأطراف والنمو السكاني فيها معتدل، إن لم نقل ضعيفاً، وهي دولة غنية فيها من كنوز الأرض وثرواتها ما يوفر لها ولشعبها الكفاية، إن لم نقل العيش الرغيد.
في أدبيات الشعر الروسي، قبل وبعد الاتحاد السوفياتي، عناوين مختلفة من أبرزها الأخلاقيات السياسية والتزاوج بين الحرية وتعزيز الصداقة والتعاون مع الشعوب، لهذا أنهكت الدول الفقيرة والدول حديثة الاستقلال وحركات التحرّر العالمية ومنها العربية، أو ساهمت في إنهاك الاقتصاد السوفياتي، بالإضافة إلى مسألة سباق التسلح بعد إطلاق الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان مبادرة دفاعية استراتيجية أسماها «حرب النجوم»، كانت تهدف إلى إغراق الاقتصاد السوفياتي بالإنفاق العسكري، حتى أصبح التنافس على التسلح يجري على حساب المواطن السوفياتي وحساب حركات التحرّر العالمية.
تعبّر روسيا بموقفها الصلب المساند لسورية عن أخلاق شعبها، قبل أن تعبّر عن مصالح سياسية أو اقتصادية، والروس يردّدون باستمرار أنّهم ومن خلال موقفهم المساند لسورية، إنما يمارسون دورهم التاريخي للحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين، وضبط إيقاع مجلس الأمن ولجم الشهوة الاستعمارية التي تراود دول الغرب الاستعماري والطموحات الإمبراطورية للولايات المتحدة الأميركية، كي لا يتحول مجلس الأمن من مؤسسة لرعاية الأمن والاستقرار الدوليين، إلى مؤسسة لتشريع الاستعمار وقوننة السياسات التوسعية وتبرير الهيمنة.
يتباهى الروس بالمناطق التي استطاعوا الإسهام في تحقيق أمنها واستقرارها، كما كانوا يتباهون بحالة الأمن والاستقرار التي عاشتها شعوب ودول الاتحاد السوفياتي السابق، حيث لم يكن الشرطي على مساحة سدس الكرة الأرضية يحمل السلاح، أي سلاح، فيما كان الأمن والاستقرار حالة أخلاقية صرفة، عشنا مثلها في سورية طيلة العقود الماضية قبل أن تكشف المؤامرة القذرة عن أنيابها و«دواعشها».
لم تنل التحولات الدراماتيكية التي شهدتها روسيا ونظامها السياسي واقتصادها وتعدّد أحزابها وصراعات الأحزاب الداخلية من مواقفها السياسية الأخلاقية، وبقيت على الرغم من استهدافها من قبل جيرانها ومن قبل الدول الأوروبية مجتمعة والولايات المتحدة، وفية للصداقات وللشعوب ولحركات التحرّر العالمية كما هي وفية للمسألة السورية وحريصة على سورية وعلى شعبها وعلى موقفها ودورها الإقليمي.
روسيا وريثة دولة الإلحاد، كما كان البعض يسميها، أكثر وفاء وصداقة وأخوّة من مدّعي الإيمان في هذا الزمن، زمن «الدواعش» الساقط.