تصاعد المخاطر النووية بانتظار قرار متهوّر
تزايدت وتيرة الصراعات الداخلية في المشهد السياسي الأميركي بكشف المدير السابق بالوكالة لمكتب التحقيقات الفيدرالي، آندرو ماكيب، لمداولات الجهاز مسألة الإعداد لتنحية الرئيس دونالد ترامب «استناداً إلى مادة التعديل الدستوري 25… وإطلاعه قيادات الحزبين في الكونغرس، «عصابة الثمانية»، على بدء إجراءات التحقيق بعلاقة الرئيس ترامب في سياق مكافحة التجسّس». خاصة بعد العزل المفاجئ لمدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، جاء ذلك خلال حملة إعلامية مكثفة للترويج لكتابه الجديد «التهديد»، الصادر قبل بضعة أيام.
كما تفاقمت العلاقات الأميركية الروسية عقب إعلان الإدارة الأميركية انسحابها أحادي الجانب من اتفاقية الحدّ من الأسلحة النووية متوسطة المدى مع روسيا، ردّت عليها موسكو برسائل تهديد واضحة لأول مرة بأنها ستستهدف الأراضي الأميركية بأسلحة متطوّرة ان استمرت واشنطن بنشر منظومات صاروخية في القارة الأوروبية. سيتناول قسم التحليل تلك المسألة وما سيترتب عليها من تداعيات تؤثر على مجمل الوضع الدولي.
سباق تسلح مخيف
أشار المجلس الأميركي للسياسة الخارجية إلى تراجع التقنية العسكرية الأميركية أمام كلّ من «روسيا والصين.. اللتين تشكلان تهديداً للأمن القومي الأميركي، وتحثان الخطى لتطوير متسارع لنظم أسلحة لا تمتلك الولايات المتحدة دفاعات فاعلة ضدّها». واستشهد المجلس بتقرير حديث صادر عن مكتب المحاسبة الحكومي رفع منسوب القلق الداخلي «لمضيّ الصين وروسيا في تطوير أسلحة أسرع من الصوت.. والتي قد تتغلب على معظم نظم الدفاع الصاروخي. لا تتوفر لدينا إجراءات مضادة في الوقت الراهن».
بومبيو يدق إسفينا في أوروبا
أشادت مؤسسة هاريتاج بجولة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى العواصم الأوروبية وأسلوبه الحادّ في مخاطبتهم «وانتصاب شعر رؤوسهم بخلاف ما تعوّدوا عليه من دماثة الرئيس السابق أوباما»، محمّلاً السياسة الأميركية السابقة مسؤولية «فتح أبواب الاستثمار والنفوذ الصيني والروسي على مصراعيه» في أوروبا. وأضافت أنّ أولويات وزير الخارجية والتي أبلغها لمحاوريه الأوروبيين تمحورت حول جملة ملفات «.. ممارسة ضغوط على أوروبا لثنيها عن التبادل التجاري مع سورية التحذير من تصاعد نفوذ روسيا والصين في سعيهما لاستغلال وتعميق هوة الخلافات بين الولايات المتحدة وأوروبا وتنشيط العلاقات المتينة بين الولايات المتحدة ودول أوروبا الوسطى».
سورية
كشف معهد أبحاث السياسة الخارجية عمق الجدل الداخلي الأميركي عقب قرار الرئيس ترامب انسحاب القوات العسكرية الأميركية من سورية «باستثناء 200 جندي»، مما حفز القيادات العسكرية «إلى اللحاق بتصريحات الرئيس وإنهاء القتال مع تنظيم «الدولة الإسلامية ـ داعش» في منطقة ضيقة ومنخفضة الكثافة السكانية في شرقي سورية». وأضاف أنّ المبعوث الأميركي الخاص لسورية، جيمس جيفري «منخرط في التفاوض بقوة مع تركيا و قسد لترتيب انسحاب القوات الأميركية». وحذر من أن يحين موعد انسحاب القوات الأميركية «قبل التوصل لاتفاقيات مع تركيا و قسد بشأن إنشاء منطقة آمنة.. بل لا نلمس تعديلاً في الأهداف الأميركية لضمان الحدّ الأدنى من المصالح الأميركية مما يعرّض عملية الانسحاب لاضطراب قبل التوصل لاتفاق حول القضايا الرئيسة مع مختلف القوى العاملة في شمال شرق سورية».
الجزائر
استعرض مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية جولة الانتخابات الرئاسية في الجزائر بمشاركة «أكثر من 100 مرشح.. بيد أنّ الأنظار لا تزال مشدودة نحو الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.. الذي يعاني من متاعب صحية معلناً ترشيحه لولاية رئاسية خامسة». وأعرب عن اعتقاده بأنّ «تركيز الأنظار على مرشح بمفرده يرمي لتشتيت الاهتمام عن التحديات الكبرى التي تعصف بالجزائر.. وما يهمّ الجزائريين هو قدرة مراكز القوى الكبرى، من الجيش والرئاسة ورجال الأعمال، التوصل إلى إجماع حول آليات تعالج المطالب الاجتماعية والاقتصادية، وفي نفس الوقت الاستمرار في توفير الأمن والاستقرار للعامة».
الصراع على ضفتي البحر الأحمر
اعتبر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى انّ من تداعيات «انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط بروز تهديدات أمنية في البحر الأحمر مما حفّز تقارب السعودية والإمارات مع جيرانهم في القرن الأفريقي ورؤية فرص الاستثمار لرأس المال الخليجي». أضاف أنه على الرغم من استفادة الدول مجتمعة من التعاون الاقتصادي «بيد أنّ الخلافات القائمة بين اللاعبين الإقليميين تنبئ بزعزعة الاستقرار في الدول الضعيفة المشرفة على الممرّ المائي». وحث المعهد الولايات المتحدة على «تعزيز جهودها الديبلوماسية لتسهيل سبل التعاون المشترك ودرء الصراع ودعم حلفائها في المنطقة».
تمضي واشنطن بسرديّتها وسياساتها متشبّثة بموقعها السابق للمتغيّرات الدولية باعتبارها الركن الأوحد والأقوى في عالم ما بعد الحرب الباردة التقليدية، وتقاوم مكرهة بروز تعدّد القطبية العالمية والتعويل على شحن الداخل الأميركي بخطاب لتهديد متخيّل من «روسيا والصين» باعتبارهما يشكلان منافسين صاعدين يتحدّيان جبروتها.
مراكز القوى الرئيسة الأميركية، مؤسّسات عسكرية واستخباراتية وإعلامية، حافظت على مناخ العداء لروسيا بشكل خاص، واستغلت كلّ ما تملك من فرص وإمكانيات وموارد لزيادة إنفاقاتها العسكرية علها تسعفها في إزاحة المنافسين الدوليين، وبقائها في مركز القطب الأوحد.
مجيء الرئيس ترامب للبيت الأبيض شكل الحاضنة المناسبة لنزعة سيطرة المؤسسة العسكرية والاستخباراتية على مفاصل القرار السياسي، ودفعه لاتخاذ مواقف معادية لروسيا، ومن ثم الصين بدرجة موازية، في سياق مراهنة المؤسسة استعادة مناخ سباق التسلح و»حرب النجوم» التي أسهمت بانفلاش ومن ثم تفكك الاتحاد السوفياتي لاستدراج روسيا لنفس المصير.
نشطت الركائز الفكرية لصنّاع القرار، مراكز الأبحاث المختلفة، في الآونة الأخيرة لتحشيد الرأي الأميركي العام وراء السردية الرسمية بمعاداة ومواجهة روسيا أحدها وربما الأهمّ كان معهد بروكينغز باستضافته قائمة مطوّلة من المتحدثين، آخرهم كان عضو مجلس النواب عن ولاية ماساتشوسيتس، سيث مولتون، الذي «شدّد على أنّ ما تحتاجه الولايات المتحدة يمكن تلخيصه بعبارة التفكير بعقلية الجيل المقبل لتطوير أسلحة جديدة وذكية وبناء تحالفات وإرساء قواعد للحدّ من انتشار الأسلحة» بما يخدم الاستراتيجية الأميركية. 12 شباط الحالي .
وبرّر مولتون نظريته «الهجومية» بتذكير النخب الفكرية أنّ «عودة المنافسة بين القوى العظمى كشف الغطاء عن حدود القدرات الأميركية الراهنة.. الصين وروسيا تتفوّقان علينا جوهرياً بقيود الإنفاق المالي وقيود سياسية أضعف. لذا ينبغي علينا زيادة استثماراتنا بشكل ملحوظ في تطوير أسلحة تفوق سرعة الصوت وأخرى للفضاء الإلكتروني».
واشنطن لم تفوّت أيّ فرصة للنيل من موسكو وتحشيد الرأي العام الداخلي والعالمي ضدّها، أحدثها كان سلسلة خطابات لوزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، منتصف شباط/ فبراير الحالي، في جولته الأوروبية».. محذراً من أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يشكل تهديداً للديمقراطيات في انحاء العالم».
موسكو لم تصمت طويلاً، وأتى ردّها في مكانة غير معتاد عليها بخطاب رئاسي هو الأول منذ انسحاب واشنطن من معاهدة الحدّ من الأسلحة النووية، وتأكيد الرئيس الروسي، قبل أيام، أنّ الأراضي الأميركية ستكون مسرحاً في الحروب المقبلة وبلاده».. ستردّ على أيّ نشر للأسلحة النووية متوسطة المدى في أوروبا ليس فقط باستهداف الدول التي تُنشر فيها هذه الصواريخ بل باستهداف الولايات المتحدة الأميركية نفسها».
وشدّد الرئيس الروسي على أنّ بلاده «لا يمكن أن تكون البادئة» بحرب نووية كارثية انطلاقاً «من عدم إيماننا بمفهوم الضربة الوقائية. وأضاف أنّ روسيا «لا تعتزم أن تكون الأولى في نشر مثل هذه الصواريخ كروز في أوروبا. في حال طوّرتها الولايات المتحدة ونشرتها في أوروبا، فهذا الأمر سيفاقم بشكل كبير الوضع الأمني الدولي، وسيخلق تهديدات جدية لروسيا». وأشار إلى أنّ بعض الصواريخ قادرة على بلوغ «موسكو خلال 10-12 دقيقة».
الردود الأميركية والأوروبية عكست مدى القلق من تصريحات الرئيس بوتين الذي «يهدّد باستهداف أميركا بصواريخ نووية»، كما جاء في عنوان يومية «التايمز» اللندنية، 21 شباط الحالي، باعتباره «أخطر تهديد من بوتين للولايات المتحدة منذ إعلان إدارة ترامب الانسحاب» من المعاهدة النووية. مسؤول أميركي لم يفصح عن هويته صرّح للصحافيين بأنّ بلاده «تلتزم بشكل تامّ بمعاهدة الحدّ من الأسلحة النووية متوسطة المدى». الناطق باسم الخارجية الأميركية زعم أنّ «الولايات المتحدة لا تسعى لتطوير مماثل لآنظمة جديدة تحمل رؤوساً نووية».
هناك مؤشرات وإيحاءات أميركية ضعيفة ترمي لاستعادة تفعيل المعاهدة النووية مع روسيا، أحدثها جاء على لسان وزير الطاقة الأسبق، ايرنيست مونيز، خلال حضوره «مؤتمر ميونيخ للأمن»، 17 شباط الحالي ليومية ديفينس نيوز، معتبراً عودة الولايات المتحدة للالتزام بنصوص المعاهدة مشروطة بتوصل الطرفين لاتفاق على نظام تفتيش للنظم التي يُعتقد أنها تنتهك المعاهدة. وأوضح «بصراحة، فالروس الذين تحدثت معهم أفادوا بأنّ كلّ ما هو مطلوب الموافقة على نظام تفتيش متبادل».
واستطرد معرباً عن اعتقاده أنّ ما يقضّ مضجع الجانب الروسي هو نشر منظومة «ايجيس» الصاروخية على شواطئ دول أوروبا الشرقية المحاذية للحدود الروسية وما تمثله من قدرات تدميرية تنتهك نصوص المعاهدة.
خبير علم الصواريخ الأميركي الشهيرفي معهد ماساتشوسيتس التكنولوجي MIT، تيد بوستول، مضى محذراً من خطورة تلك المنظومة لقدراتها العالية في إطلاق صواريخ كروز «وينبغي أخذ قلق الجانب الروسي منها بعين الاعتبار».
واستطرد محذراً من خطورة السلاح النووي في مقال نشره بصحيفة «نيويورك تايمز»، 19 شباط الحالي، أنّ «صواريخ كروز الحديثة المسلحة برؤوس نووية مفزعة إلى حدّ بعيد عن ذاك الجيل من الصواريخ المتضمّن في المعاهدة النووية الموقعة عام 1987.. لا سيما في قدراتها الراهنة لتعديل مسار تحليقها تلقائياً والبقاء في حالة تأهّب لتنقض على الهدف المرسوم مسبقاً».
وخلص بوستول بمناشدة كلّ من واشنطن وموسكو عدم الانزلاق لسباق تسلح نووي جديد خاصة «أنّ القدرات التدميرية المرعبة لدى الطرفين من شأنها تصعيد احتمالات استخدام الأسلحة النووية الكارثية نتيجة خطأ ما في خضمّ أزمة غير مرئية في اللحظة الراهنة».
في ذات السياق التحذيري من جانب الخبراء والساسة «العقلانيين» انضمّ الثنائي ورئيسي منظمة مبادرة التهديد النووي بالشراكة، ايرنيست مونيز والسيناتور الجمهوري الأسبق سام نان، بالقول إنّ واشنطن وموسكو «تحثان الخطى نحو كارثة نووية.. بالترافق مع غياب الإرادة عند الطرفين لاحتواء المشهد».
وطالب الثنائي المذكور في مقال مشترك في الأول من شباط/ فبراير الحالي، نشرته يومية بوليتيكو، صناع القرار في واشنطن «تدارك اندلاع صراع كارثي عبر إعادة الانخراط مع روسيا الآن بدعم من الكونغرس الذي يتعيّن عليه لعب الدور الأساس».
وناشدا قادة الكونغرس من الحزبين، دون أن يوجها اللوم المباشر للجانب الأميركي، بالمبادرة «لتسهيل إنشاء حيّز سياسي لقيادة القوتين النوويتين العظميين بعيداً عن النكبة المحدقة والتحدي الصريح للفرضيات الراهنة بأنّ واشنطن ليس لديها خيار آخر نحو روسيا باستثناء الشلل المفروض ذاتياً».
في حمأة مناخ التصعيد المعادي لروسيا واستباق الزمن لفرض مزيد من العقوبات الغربية عليها، فضلاً عن «غياب استراتيجية فعّالة عند أدارة ترامب لثني روسيا عن إنتاج ونشر صواريخ نووية متوسطة المدى بمعزل عن المعاهدة الموقعة» من شأنه أن يفاقم الأزمة عند حلفاء أميركا، بل «سيحفز أعضاء حلف الناتو على تصعيد معارضتهم للسياسة الأميركية»، وفق ما جاء في تقرير لمنظمة الحدّ من انتشار الأسلحة النافذة في القرار الأميركي عبر مرحلة الحرب الباردة.
وناشدت المنظمة في تقرير لها في الأول من شهر شباط الحالي، قادة وأعضاء الكونغرس «الامتناع عن تخصيص أيّ موارد مالية لشراء نظم تسليحية» نووية والذهاب سوية مع روسيا لتجديد العمل بالمعاهدات النووية السابقة «لخمس سنوات إضافية لما بعد عام 2021» بعد انتهاء صلاحياتها.
بيد أنّ الوقائع الملموسة راهناً تتعارض بشدة مع توجهات «العقلاء» ونصائح الخبراء التقليديين، خريجي مرحلة الحرب الباردة، وتصطدم بعزم الإدارة ومفاصل صنع القرار المضيّ بخطة تسليح نووية جديدة، رغم إدراكها جميعاً أنّ ما يتوفر لدى ترسانتها راهناً يكفي لتدمير الحياة على الكرة الأرضية بكاملها.
نشرة دورية تصدر عن وحدة «رصد النخب الفكرية» في مركز الدراسات الأميركية والعربية