الفاسدون يَلهثُون خلف التسويات
د. وفيق ابراهيم
تقول القاعدة التاريخية انّ المتورّطين في مختلف أنواع المخالفات يلجأون إلى وسيلتين متتاليتين لإنقاذ أنفسهم:
الأولى: صراخ دفاعي يتهمون فيه الآخرين من دون بيّنات مستندين إلى أساليب عامة لتحشيد وسائل دفاعهم، أما الثانية فتجري ليلاً عبر البحث المكثف عن تسويات بتنازلات مشتركة تعاود طمس الاتهامات وتحجبها.
الواضح حتى الآن انّ حزب الله جدّي في كشف ملفات الفساد وكان عليه بعد التعمّق في دراستها أن يبدأ بواحدة منها، فاختار إنفاق الـ 11 مليار دولار في مرحلة حكومة فؤاد السنيورة، ليست مغطاة بإثباتات قانونية كافية بطرق الإنفاق، وكان التيار الوطني الحر سبّاقاً في طرح ضرورة محاسبة المتورّطين في الإنفاق المشبوه للـ 11 مليار دولار منذ عدة سنوات، لكنه توقف عن ملاحقة الموضوع بعد تقارب سياسي حميم أنجزه رئيسه الوزير جبران باسيل مع رئيس الحكومة سعد الحريري الذي يترأس أيضاً حزب المستقبل الذي ينتمي إليه فؤاد السنيورة.
ما يحدث اليوم يحاكي الأيام الخوالي إنما من دون تسويات سياسية، فما كاد النائب حسن فضل الله يطرح إعلامياً مسألة الـ 11 مليار دولار مؤكداً أنّ فريق عمله دقق في أوجه إنفاقها متبيّناً وجود كمية ضخمة من التلاعب والفساد، ولم يذكر السيد حسن اسم السنيورة ولم يتهمه بالاسم لكن مجرد الإشارة الى هذا الملف كانت كافية لاستنفار من السنيورة جاء على شكل تصريح إعلامي قال فيه انّ المتهمين الحقيقيين بالفساد يتهمون الأبرياء مهدّداً بمؤتمر صحافي يوم غد الجمعة لفضحهم.
هذا هو السيناريو التقليدي، أما الجزء الثاني فيه، فجاء على شكل زيارة ليلية مباغتة التقى فيها «الشيخ» سعد برئيس المجلس النيابي نبيه بري في مقرّه في عين التينة.
هنا لا يحتاج المرء إلى جهد كبير للربط بين هذه الزيارة وبين مسألة السنيورة، ايّ تماماً كما حدث في تجربة التيار الوطني الحر التي آلت الى تسوية.
فهل تتجدّد التسوية؟
من المؤكد انّ الرئيس بري لن يقبل بأن يكون وسيطاً في «مفسدة» متكاملة الأطراف جمعت في تلك المرحلة بين السطو على المال العام ومحاولة ضرب «المقاومة» بإيجاد تبريرات داخلية لهجوم «إسرائيلي» عام 2006 والإصرار على قطع نظام الاتصالات عند حزب الله مع تنسيق عميق بين السفارة الأميركية والسنيورة والخليج.
هذا التناقض السياسي الاقتصادي العميق مع السنيورة لا يسمح بتمرير تسويات.
وما كان حزب الله ليدخل في ملفات الفساد لمجرد البحث عن استثمار سياسي.
لقد التزمها بمعرفة عميقة ومسبقة بتداعياتها.
أما لماذا تبناها؟ فلأنه تأكد من أنّ الدولة اللبنانية مهدّدة بالانهيار الاقتصادي وبالتالي السياسي، ما أرغمه على الاستقصاء العلمي لملف فساد كبير أصبح طريقة أساسية في الإنفاق العام وهذا الفساد السياسي مدعوم من النظام الطائفي ويسيطر بشكل كامل على حركة الإنفاق والتعيينات في الإدارة العامة، حتى أصبح انّ نهب المال العام وبمليارات الدولارات هو قاعدة التعامل الرسمي مقابل استثناءات طفيفة في الإنفاق النزيه.
ما هي إذاً آفاق استمرار حزب الله في معالجة الفساد؟ المسألة ليست سهلة، وقد يترتب عليها محاولات تحشيد مذهبي وطائفي إلى جانب إسناد ودعم من قوى سياسية أخرى تعرف أنها قد تكون التالية في متابعة حزب الله لملف الفاسدين.
لذلك لن يكون غريباً إذا ما ذهب السنيورة في مؤتمره الصحافي المرتقب والذي يتبعه في سياق نظام المساومات الذي يجيده ان يعتبر استهدافه مشروعاً سياسياً لتحجيم أدوار مذاهب لمصلحة مذاهب أخرى.
وقد يصل إلى حدود اتهام «المشروع الإيراني» باستهدافه في إطار الفتنة السنية الشيعية محتمياً باتهام الخليج والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا لحزب الله عموماً بالإرهاب، فكيف يمكن حسب زعمه القبول بتحقيقات يجريها حزب متهم بالإرهاب؟
هذا جزء من المشهد السياسي المحموم والقابل للانفجار، فالقوى السياسية مترقبة وراصدة لملفات حسن فضل الله ولا تعرف متى يأتي دورها، وتأكدت انّ حظوظ التسوية قليلة لأنّ حزب الله لا يبحث عن استثمار سياسي مقابل «اللفلفلة» وليس متهماً بالجري وراء صعود سياسي فهو مُكلّف بأدوار اقليمية كبيرة جعلته مصدراً للاقتداء به على مستوى العالمين العربي والإسلامي، كما نصّبته السياسات الأميركية والخليجية و«الإسرائيلية» عدواً كبيراً لها وهذا شرف له ويمتلك في لبنان قاعدة شعبية وازنة جداً، وحقيقية لا تنهض في مرحلة التحشيد كغيرها.
لقد أخبر الحزب القوى السياسية انّ لديه ملفات تحتوي على أرقام بالإنفاق وما على هذه القوى إلا أن تظهر إنفاقها السليم لهذا المال العام، وهذا يتطلب وجود مستندات دقيقة وهذا يعني انّ الحزب لا يتهم القوى بأسمائها بقدر ما يطلب من النيابة العام المالية تبريراً علمياً لهذا الإنفاق من الذين أشرفوا عليه في مراحل مختلفة.
فهل ينجح حزب الله في إجهاض سياسية الفساد في لبنان؟
هناك صعوبات كثيرة لكن إمكانات الحزب السياسية والجماهيرية تؤهّله ليؤدّي دوراً رقابياً كبيراً على إنفاق المال العام، بما يؤدّي إلى صيانة الدولة اللبنانية ومنعها من الانهيارين الاقتصادي والسياسي.