ما نطق عن الهوى

د. شهناز صبحي فاكوش

ذاك هو التاريخ المكتوب والمعاش والقادم حتماً، إنْ بقينا على حالنا من التشتت والتفرقة. والكثير من ساستنا العرب دمى تحرّكها الخيوط التي تربطها بأيدي أعدائنا فتتراقص جميعاً على وقع الإيقاع الذي تعزفه أوركسترا الإدارة الأميركية.

هذه التي تسعى إلى تحقيق مآربها في الهيمنة على منطقتنا. ثم ترمي الشرارة التي تحرق الدمية، أو تلقيها أرضاً بعد قطع خيوط اتصالها. لا لشيء… فقط لأنها اكتفت منها وانتهى دورها حسب المرسوم، أو لملل جمهورها منها الشعب الذي تحكمه .

في خضمّ اللعبة العتيدة التي تلفّ عجلتها الأمم، والأمة العربية ضمنها. تتحفنا الهيئات الأممية بين الفينة والأخرى بمصطلحات، تزجّ العالم في إشكاليات لا حدود لها. هي لا تنطق عن هواها. فالإيحاء فيها دائماً للمخابر الأميركية. التي يتلطى خلفها اللوبي الصهيوني في فكره المستنبط دائماً من بروتوكولات صهيون.

هذه التي تدير السياسة العالمية، وحركة الدومينو المضطردة، التي تضرب الخارطة الجيو سياسية والديموغرافية العالمية، ومحورها دائماً الوطن العربي باتساع رقعته. إما ربطاً بعجلتها أو نبذاً في نَفْر الجاذبية.

طرح هنتغتون مصطلح «صراع الحضارات»، في نهايات القرن الماضي، فملأ الدنيا وشغل الناس، في إشكالية لم يتعاطاها مجتمعنا العربي. على الأقلّ في مساحاته الظاهرة. وإنْ كان لها إشارات غير متلمسة، فهي في محدودية لا تُرى، اللهم إلا تحت المجهر.

خلق المصطلح إشكالات وجيسة في عالم الفكر والأدب والسياسة والدين… هذا في ظاهر الأمور. أما بواطنها فكان الهدف هو الدين والدين فقط، لإيقاع الشرخ بين الأديان، ومخر الجزئيات والتفاصيل التي ينفذ منها الشيطان، ليتربّع على عرش الفتن بين بعضها البعض، والطوائف في الدين الواحد.

هكذا فقط يُسوّق الدين… حالةً انقسامية، تَلصق به صفة الإرهاب والقتل والتدمير. بحجة نشر الصحيح منه، في عملية تكفير لكلّ مخالف وإيقاع القصاص الدموي مستهدفاً المسيحية كما الإسلام، وإنْ كانت أكثر محدودية حيث لم تطفُ على السطح.

كما برزت تلك الإسلامية التي جعلت الكيد السياسي في كثير من دول العالم ترفع سيف الطائفية إقصائياً أو مسخاً وتسفيهاً للغير… وصولاً إلى الإرهاب المنظم.

لم ينطق هنتغتون عن الهوى، فقد كان لسان حال الإدارة الأميركية بمختلف مفاصلها وإنْ خفيةً مطلقاً العنان لما يملكه من عبقرية ليسخرها في مصطلحه «صراع الحضارات».

اعتبر ذلك أنه ردّ على تلميذه فوكوياما الذي طرح مصطلح «نهاية التاريخ» لتكون الديمقراطية الليبرالية هي الحلّ لنهاية تاريخ أنظمة الحكم السياسية في منطقتنا. لتصل إلى النموذج الغربي الحر ولسيادة اقتصاد السوق…

بينما أستاذه يطرح الثقافة والأديان، على أنها تحدّد مستقبل العالم من خلال صدام الحضارات. وكلاهما يجعل أميركا هي النموذج والمحرّك. بتنافر الخطاب الأميركي عن الخير والشرّ وخطاب العنف والجهاد في الشرق الأوسط. المصطلح الذي ابتلع حقنا الطبيعي بتسميتنا وطناً عربياً أو حتى منطقةً عربية.

كرّس أفكار ما ورد من كلا الأميركيين هنتغتون وفوكوياما… بوش الإبن رئيساً ـ والصنيعة الأميركية ـ أسامة بن لادن ومساعديهما ديك تشيني وأيمن الظواهري.

كانت المحرقة الحقيقية لتطبيق التجربة، أفغانستان… ثم العراق… وصولاً إلى كل الأنظمة العربية الجمهورية، عبر ما دعي بـ«الربيع العربي». ولكن تختلف شدة البطش لإسقاط الدولة، بالقدر الذي ينضوي فيه النظام القائم تحت الجناح الأميركي أو رفضه الخضوع. والحجة نشر الديمقراطية.

لو كان الهدف الديمقراطية كما يدّعون، لكانت الممالك والإمارات المستبدّة في أنظمتها، أوْلى بالحراك لتحقيق العدالة الاجتماعية وتطبيق الديمقراطية الليبرالية.

لكن ما بات واضحاً هو الوصول إلى تدمير حضارة وتقدم دول الأمة العربية، بحجة الحاجة للإصلاح. ثم زجّ عملائهم وأذرعهم الإجرامية، للصق الإرهاب والعنف تحت عنوان الجهاد زيفاً بالإسلام.

الغاية بذلك إشغال الكبير والصغير، وحرف أفكار العالِم والجاهل، إلى مطايا مساحات بعيدة عن تلك التي تحيك فيها الإدارة الأميركية مخططاتها العسكرية والسياسية لخداع العالم بعناوين مزيفة. تسللت من خلال شروخها إلى تدمير العراق وقبلاً حراثة أفغانستان بعد تحطيمها.

بعد ذلك امتدّت يدها إلى الوطن العربي عبر رسائل مخادعة، برّاقة… والصهيونية العالمية تحيك المؤامرات، وتضع المواعيد على روزنامة تدمير ما تسمّيه منذ عقود منطقة الشرق الأوسط، لتضمن شرعية وجودها فيه.

ازداد الحقد بعد قيام الدولة الإسلامية الإيرانية، التي اخترقت العالم بتناميها في الاعتماد على الذات، وصولاً إلى التخصيب الذي لما تزال إشكالياته قائمة حتى الساعة، ولا تصل فيه إلى نتائج مع من ولّوا أنفسهم أصحاب قرار عالمي، حتى وإنْ انتقلت جلسات لقاءاتهم إلى مسقط، لإبراز حسن النوايا في التعاطي مع ملفها النووي.

إنّ التصعيد فيه واستخدامه ورقة ضغط ـ لأنها حليف لسورية ـ كلما كانت سورية أقوى على الأرض، صامدة في وجه عاصفة الإرهاب، والحرب العالمية المفروضة عليها، رغم فتح قربة أو أكثر ينهال منها السلاح والدمار والخراب.

أما سحق أبناء الأرض الأصليين كما حدث في العراق مع الإيزيدية على سبيل المثال لا الحصر بإدّعاء وحدانية الخالق، هي سياسة أميركية بحتة نشأت على أساسها نيو انكلند، نيو أمستردام، هبة الله الجديدة، أرض الميعاد وأسماء أخرى تبدّلت حتى استقرّت إلى أميركا.

الحقيقة أنهم لم يوفروا مسلماً أو مسيحياً، كتابياً أو حتى حَمَلة جزئيات طائفية. وعميلهم في هذا «داعش» التي تمرّدت عليهم، ما جعلهم يتبعون لغة استعراضية هشة في ضربها، أو تقويضها، وليس القضاء عليها.

إنّ ولادة الكيان الصهيوني في المنطقة العربية، حاملاً هوية ترعاها الدول الاستعمارية، وتشرعنها الهيئات الدولية، يحتاج الحفاظ على أمنه… إلغاء أي قوة مواجهة في محيطه، والراعي لهذا الأمن مخدومه الأميركي الذي يعيش في مزرعة اللوبي الصهيوني على أرض العم سام، بلاد صهيون أحد أسمائها عند نشأتها.

إذاً… لا شيء ينطق عن الهوى في أميركا، بل بوحي مراكز الدراسات ومخابر الإدارة الأميركية السياسية والعسكرية. فهل من مدّكر…؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى