آسيا الأهمّ في المشهد الدولي

وزير سابق
زياد حافظ

معظم النخب العربية الحاكمة ما زالت متأثرة بنظرية ملكية الولايات المتحدة لتسعة وتسعين بالمائة من «أوراق اللعبة». والقيادات الخليجية ما زالت تعتقد أنّ أمنها يمرّ عبر الولايات المتحدة وأنّ بوّابة استرضاء الولايات المتحدة هي استرضاء الكيان الصهيوني. من جهة أخرى، أطلقت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في عهد الرئيس كلينتون، مادلين أولبرايت مقولة إنّ الولايات المتحدة هي الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها. لسنا متأكدّين أنّ الولايات المتحدة تملك تسعة وتسعين بالمائة من الأوراق، وإنْ امتلكت شيئاً فهي احتلال العقل السياسي للنظام الرسمي العربي هذا إذا كان هناك من عقل! فقط لا غير والذي لم يعد يمثّل الشعوب العربية بكافة أطيافها. كما لا نعتقد أنّ الولايات المتحدة هي الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها كما زعمت مادلين أولبرايت. فالأحداث منذ بداية الألفية الثالثة وربما قبل ذلك بعقدين تشير إلى خط بياني واضح في حالة تراجع، بل إلى أفول الولايات المتحدة ودورها في العالم. مجموعة بريكس ومنظّمة شانغهاي من الدلائل التي تؤكّد على وجود قوى صاعدة تواكب تراجع الولايات المتحدة. لذلك إنّ ما يحصل على الصعيد الإعلامي في آسيا هو الأهمّ والأساس وما يحصل في الغرب وفي الولايات المتحدة هو التابع وليس أكثر! ولقد أشرنا في أماكن عديدة وفي عدّة مناسبات إلى أنّ مقوّمات التفوّق الأميركي والغربي لم تعد قائمة وأنّ هناك من ينافسها في كافة المجالات التي كانت تعتقد الولايات المتحدة احتكاراً لها بدءاً من القوّة العسكرية إلى القوّة الاقتصادية إلى الريادة في التكنولوجيا إلى آخر مظاهر القوّة الناعمة، إضافة إلى رداءة القيادات الغربية بشكل عام والأميركية بشكل خاص. من هنا نعتقد أنّ اهتمامات النخب العربية يجب أن تكون منصبّة على آسيا وخاصة الكتلة الأوراسية بشكل رئيسي وعلى دول الجنوب العام من أفريقيا إلى أميركا اللاتينية. فما يحدث هناك يؤثّر بشكل مباشر في العالم العربي.

وتأكيداً لما نقوله تصدّرت آسيا المشهد الدولي خلال الأيام القليلة الماضية. فقمة هانوي التي جمعت رئيس كوريا الشمالية بالرئيس الأميركي تلازم مع أزمة عسكرية خطيرة بين باكستان والهند سرعان ما تراجعت وتيرتها وإنْ لم تنته أسباب المواجهة. كما تلازم مع قمة لوزراء الخارجية لكلّ من الصين وروسيا والهند في إحدى المدن الصينية. ويمكن الإضافة إلى كلّ ذلك التوتّر المستمر في بحر الصين بين الولايات المتحدة والصين وإخفاقات الولايات المتحدة في أفغانستان. غير أنّ الإعلام الغربي لم يذكر الاجتماع بين وزراء الخارجية الثلاثة بل اكتفى بنقل وقائع وتحليلات عائدة للقمة الفاشلة في هانوي وتداعيات المواجهة العسكرية بين باكستان والهند. فالاجتماع الثلاثي له دلالاته من حيث يكرّس دور الكتلة الأوراسية في المشهد الدولي وتأثيره بطبيعة الحال على مسار الأمور. وأخيراً وليس آخراً كان اللقاء اللافت للنظر بين مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران والرئيس السوري بشّار الأسد. فكيف يمكننا قراءة تلك الأحداث وربطها؟

أولى القراءات هي أنّ لكلّ من تلك الأحداث ظروفها الخاصة. فالتوتر الباكستاني الهندي مزمن ويعود إلى نشأة الدولة الباكستانية سنة 1947 ورسم الحدود بين البلدين على يد المستعمر البريطاني وإرثه الثقيل في النزاع حول مقاطعة كاشمير. هذا صحيح، ولكن ذلك التوتّر يأخذ بعداً مختلفاً بعد تشكيل الكتلة الأوراسية والطريق الواحد والحزام الواحد التي تتبنّاه كلّ من الصين وروسيا.

النزاع حول كاشمير ليس محور مداخلتنا إلا من زاوية الأثر على الكتلة الأوراسية والحزام الواحد/ الطريق الواحد. كاشمير تفصل بين الهند وباكستان والصين. اقتسام كاشمير بين الدول الثلاثة يأخذ بعده الجيوسياسي مع محاولات الولايات المتحدة لإضعاف الكتلة الأوراسية أو لجعل اختراق يهدّد نموّها. تاريخياً، كانت باكستان حليفة الولايات المتحدة بينما الهند كانت متصدّرة مجموعة دول عدم الانحياز وعلى علاقة جيدة بالاتحاد السوفياتي. مع صعود اليمين الهندوسي إلى السلطة مع حزب جانتا وتراجع دور حزب المؤتمر المؤسس التاريخي لدولة الهند بعد الاستقلال تنامت العلاقة بين الهند والولايات المتحدة ومؤخّراً مع الكيان الصهيوني. في المقابل كانت علاقات باكستان والصين جيّدة وذلك لإيجاد توازن جيوسياسي مع الهند من وجهة نظر باكستان، خاصة بعد الحروب الصينية الهندية في ستينات القرن الماضي. وهنا يكمن دور باكستان المفصلي: علاقة طويلة مع الولايات المتحدة وعلاقة حسن الجوار مع الصين.

احتمال سيطرة الهند على كلّ مقاطعة كاشمير يهدّد مصالح الصين وخاصة مشروع الممرّ الصيني الباكستاني الذي يشكّل حجر زاوية في مبادرة الحزام الواحد/ الطريق الواحد. والصين على وشك إيصال أوتوستراد يوصل الصين بباكستان. من هنا نفهم الاهتمام الكبير للدبلوماسية الصينية في الأزمة الباكستانية الهندية. في المقابل، دور روسيا قد يكون أكبر مع الهند نظراً لعلاقات تاريخية ونظراً لفعالية سلاحها الجوّي. فالتوتّر الأخير على الحدود الذي شهد اشتباكاً جوّياً بين الطائرات الهندية الروسية الصنع ميغ 21 والطائرات الباكستانية الأميركية الصنع أف 16 أسفر على تفوّق الطائرة الروسية على الطائرة الأميركية وهذا قد يعزّز الإمكانية التنافسية للسلاح الجوّي الروسي في أسواق جديدة في آسيا بدءاً بالهند عبر تسويق طائرتها ميغ 35. وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما كشف عنه الرئيس الروسي في العام الماضي في شهر آذار/ مارس عن النوعية المتفوّقة للسلاح الروسي نفهم أبعاد نتائج المواجهة الجوّية الهندية الباكستانية.

لكن بغضّ النظر عن الأبعاد التجارية في سباق التسلّح هناك أبعاد جيوسياسية للأزمة حول كاشمير. فبالنسبة لباكستان فإنّ تمسّكها بكاشمير لا يعود للبعد الديني، ولا للبعد التاريخي حول تجاهل الهند نتائج الاستفتاء حول مستقبل كاشمير الذي أفضى إلى الرغبة في الالتحاق بباكستان، فهناك الاعتبار الجغرافي حيث كاشمير هي الممرّ بين الصين وباكستان. وبما أنّ تلك الدولتين تاريخياً على توافق، وبما أنّ مشروع الحزام الواحد/ الطريق الواحد يشمل باكستان فإنّ كاشمير تأخذ بعداً جيوسياسياً دولياً. وهناك بعض المواقع الإلكترونية تشير إلى دور صهيوني في الهند في التوتّر مع باكستان. في المقابل، رغبة عمران خان في تخفيض التوتّر مع الهند يعكس أيضاً رغبة صينية في ضبط الأمور ولعدم السماح للأميركيين للتسلّل عبر عرض «وساطة» بين الأطراف المتنازعة.

الحدث الثاني الذي خطف الأنظار ولو لفترة وجيزة هو فشل اللقاء بين رئيس الولايات المتحدة الأميركية ورئيس كوريا الشمالية في هانوي. للمكان دلالاته حيث هانوي عاصمة الفيتنام التي هزمت الولايات المتحدة والتي أصبحت اليوم معقلاً للشركات المتعدّدة الجنسية الكبرى. وهانوي على تخاصم تاريخي مع الصين خلال الحرب ضدّ الولايات المتحدة وبعدها وخاصة في ضرب الظاهرة الكمبودية الثورية. فعقد اللقاء في هانوي كان بمثابة رسالة إلى الصين. هذا من جهة. من جهة أخرى تفيد الأنباء عن محاولة الرئيس الأميركي استجداء الصين في المفاوضات مع كوريا الشمالية غير أنها لم تثمر وذلك لأسباب واضحة. فمن جهة يفرض الرئيس الأميركي العقوبات على الصين ومن جهة أخرى يستجديها، فكيف يستقيم ذلك؟

من الواضح أنّ من يتحمّل مسؤولية فشل المفاوضات هو مستشار الرئيس الأميركي جون بولتون وفقاً لعدّة مصادر. فالمعروف عنه أنه لا يؤمن بالاتفاقيات الدولية والمعاهدات التي تكبّل الولايات المتحدة، وذلك من حيث المبدأ. لكن في الحقيقة إنّ أيّ تفاهم مع كوريا الشمالية سيسرّع بالتقارب بين الكوريتين وبالتالي يتحوّل موضوع تفكيك المنظومة النووية في شبه الجزيرة الكورية إلى ضرورة خروج القوّات الأميركية من كوريا الجنوبية. الجدير بالذكر أنّ اليابانيين، وخاصة سكّان منطقة اوكيناوا حيت تتواجد أكبر قاعدة أميركية في اليابان، صوّتوا بكثافة وأكثرية وازنة في استفتاء خاص حول ضرورة خروج القوّات الأميركية من اليابان. الضغوط الأميركية على حكومة آبي جعلت الأخير يتجاهل التصويت الشعبي. فهذا مؤشر عمّا يمكن أن يحدث في كوريا الجنوبية وبالتالي تعطيل أيّ اتفاق مع كوريا الشمالية يفي بالغرض.

من الواضح أيضاً أنّ الرئيس الأميركي لم يقفل الباب نهائياً على إمكانية التوصّل إلى اتفاق. نعتقد انّ الاعتبارات الانتخابية لها دور في توقيت «إنجاح» المفاوضات. فما زالت الولايات المتحدة على مسافة من الانتخابات الرئاسية في خريف 2020. لذلك هناك احتمال الوصول إلى «اتفاق» ما في ربيع 2020 يستثمر في الحملة الانتخابية. الجدير بالذكر أنّ جورج بوش الأب لم يستطع توظيف نتائج الحرب الخليج الأولى عام 1991 في حملته الانتخابية وكذلك الأمر بالنسبة لمؤتمر مدريد. توقيت النجاحات على صعيد السياسة الخارجية مع مقتضيات الحملة الانتخابية مهمّ جدّا.

الحدث الثالث هو انعقاد اجتماع وزراء الخارجية لكلّ من الصين وروسيا والهند في مدينة يوكنغ في الصين. وهذا الاجتماع تجاهلته كلّيا وسائل الإعلام الغربية وبالتالي لم تعرف أهمّيته. تناول اللقاء مسألة فنزويلا والتدخّل الأميركي في ذلك البلد كما تناول مسألة الأزمة الحدودية بين الباكستان والهند. التعقّل عند كلّ من الصين وروسيا ربما لعب دوراً كبيراً في تهدئة الأوضاع فكانت مبادرة عمران خان بإفراج الطيّار الهندي التي أسقطته وسائل الدفاع الجوّية الباكستانية. ويشير أحد أهمّ المراقبين الآسيويين السفير الهندي السابق م.ك. بهدراكومار على موقعه الإلكتروني إلى أنّ كلّ من وزراء الخارجية الصيني والروسي بذلا مجهوداً لدى حكومتي اسلام أباد ونيو دلهي لتخفيف حدّة التوتر وأنهما سيستمرّان في مراقبة الوضع. وآخر المعلومات تفيد أنّ الولايات المتحدة عرضت خدماتها للوساطة بين كلّ من باكستان والهند وذلك للحفاظ على دور ما في المعادلات الآسيوية بعد الإخفاقات في كلّ من أفغانستان وسورية واليمن. كذلك الأمر بالنسبة لبلاد الحرمين التي عرضت وساطتها بين البلدين لتكريس ما تعتقده حصلت عليه من «ود» و»نفوذ» بعد جولة ولي العهد إلى تلك الدول. فالمبادرة الأميركية مع بلاد الحرمين قد تقلق المحور الصيني الروسي في المدى القريب لكن مصالح كلّ من باكستان والهند هي مع دول الجوار أيّ دول منظّمة شانغهاي. في هذا السياق أكّد وزير خارجية روسيا نظيره الباكستاني أنّ منظّمة شانغهاي الأمنية قد تكون الإطار المناسب لمكافحة الإرهاب الذي سبّب مؤخّراً التوتر على الحدود الباكستانية الهندية. ما يدعم المبادرة الروسية الصينية مصداقية رغبتهما في تخفيض التوتر وعدم وجود أجندات مخفية تجاه كلّ من الهند والباكستان خلافاً لما يمكن توقّعه من المبادرة الأميركية والعربية وحتى الأمم المتحدة. غير أنه من الواضح أن حكومة الرياض تسعى أيضاً من جهتها عن بدائل عن الغرب بعد تبيان انكشاف الضعف الأميركي. فالمستقبل هو في آسيا وليس في أوروبا أو الولايات المتحدة.

أما اللقاء الهام بين مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران والرئيس السوري بشّار الأسد فكان بمثابة صدمة للمراقبين الغربيين. لم يفرحوا كثيراً عند نبأ استقالة وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف لأنّ رفض الاستقالة السريع كان بمثابة صفعة للشامتين. لكن بالنسبة لاجتماع يوكنغ فإنّ إيران تشكّل موقعاً استراتيجياً في منظومة شنغهاي بشكل خاص والكتلة الأوراسية بشكل عام. وبالتالي التنسيق بين كلّ من الجمهورية الإسلامية في إيران والصين وروسيا سيستمرّ في سياق تكامل سياسي واقتصادي وأمني لن يستطيع الغرب منعه. هذا يعني أنّ إيران ومعها محور المقاومة جزء من تلك الجغرافية السياسية والاقتصادية والأمنية ما يجعل خصوم أيّ طرف من محور المقاومة على تناقض مباشر مع منظومة الكتلة الاوراسية. ويستكمل الحديث في مداخلات لاحقة.

كاتب وباحث اقتصادي وسياسي وأمين عام سابق للمؤتمر القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى