أزمة الوعي في الجيش «الإسرائيلي»… وأثر قرار الانسحاب الأميركي على مستقبل المشروع الصهيوني

حسن حردان

القلق المتصاعد داخل الكيان الصهيوني، وتحديداً في دوائر صنع القرار، من جراء قرار الانسحاب الأميركي من سورية، ينبع بشكل أساسي من انّ هذا القرار ليس قراراً تكتيكياً إنما هو قرار استراتيجي يندرج في سياق توجه أميركي تراجعي في المنطقة، فالقرار حسب معهد واشنطن يتوّج المسار الأميركي المتصوّر للانسحاب من الشرق الأوسط، حيث قرّرت واشنطن على ما يبدو تقليص وجودها العسكري بسبب عوامل مختلفة أبرزها الإرهاق بعد سنوات من الحروب المكلفة في المنطقة، وخوفها من التورّط في حرب جديدة كلفتها كبيرة وتتجاوز حروبها السابقة التي هُزمت فيها، والرغبة في العودة إلى الاهتمام في الشؤون الداخلية الاقتصادية والاجتماعية، مع تحويل في التركيز نحو الشرق الأقصى حيث تحدي تصاعد قوة الصين الاقتصادية واجتياحها أسواق آسيا على حساب المنتجات الأميركية…

وبدا واضحاً أنّ هذا التوجه الأميركي إنما يعكس اتجاهاً مشتركاً لدى الجمهوريين والديمقراطيين، لا سيما أنه اتخذ في عهد الرئيس باراك أوباما الذي أعلن تغييراً في الاستراتيجية الأميركية تشمل خفض الإنفاق العسكري والتوقف عن شنّ حروب برية، وما يزيد من منسوب القلق في أوساط دوائر القرار في الكيان الصهيوني، أن الانسحاب الاميركي يترافق مع تحوّل في البيئة الاستراتيجية في المنطقة والعالم في غير مصلحة المشروع الصهيوني، الذي طالما اعتمد في نهوضه وتقدّمه وتناميه على دعم الدول الاستعمارية الصاعدة والقوية في كلّ مرحلة من مراحل هذا المشروع، منذ نشأته وسيطرته على أرض فلسطين العربية وتشريد أبنائها بدعم الإمبراطورية البريطانية، التي كانت جيوشها تحتلّ فلسطين، وبعد ذلك تولّت الولايات المتحدة الصاعدة كقوة عالمية استعمارية، بعد الحرب العالمية الثانية، مهمة توفير هذا الدعم للمشروع الصهيوني، عسكرياً واقتصادياً ومالياً، بدلاً من بريطانيا التي تراجعت قوتها وانحسر دورها الاستعماري.. على انّ التراجع في هيمنة الامبراطورية الأميركية يترافق مع عودة روسيا إلى لعب دورها كلاعب أساسي في السياسة الدولية، وهي تنتهج سياسات معارضة بقوة لسياسات الهيمنة الاستعمارية وخرق القوانين والقرارات الدولية، وهو أمر لا ينسجم مع أهداف المشروع الصهيوني القائمة على استباحة القوانين والمواثيق الدولية ورفض تنفيذ القرارات الأممية.. كما يترافق مع ازدياد قوة المقاومة العربية في فلسطين ولبنان، وامتلاكها قدرات الردع للعدوانية الصهيونية، التي كانت لعقود مضت تستند إلى الهيمنة الأميركية وحضورها القوي في الشرق الأوسط وعلى الحلبة الدولية… وهذا ما يجعل تل أبيب تبحث عن سبل مواجهة هذا المأزق الاستراتيجي، لكن لا تجد بديلاً للولايات المتحدة الأميركية يمكن أن يدعم مشروعها العدواني التوسعي التصفوي للقضية الفلسطينية، أو قادر على حمايتها من قوى المقاومة التي ألحقت الهزائم المتتالية بالجيش «الإسرائيلي»، الذي كان يُقال إنه قوة لا تقهر.. بدءاً من انتصار المقاومة عام 2000 بتحرير معظم الأرض اللبنانية في الجنوب والبقاع الغربي من الاحتلال الصهيوني، دون قيد ولا شرط أو أيّ ثمن مقابل، مروراً بالانتصار الذي حققته على الجيش «الإسرائيلي» خلال عدوانه على لبنان عام 2006، وانتهاء بانتصارات المقاومة المتتالية على جيش الاحتلال في قطاع غزة… هذه الانتصارات للمقاومة وتزايد قوتها أدّت إلى إدخال «إسرائيل» وجيشها، الذي يشكل أساس قوتها ومشروعها، في مأزق استراتيجي وحالة من التخبّط نتيجة عجز قوة هذا الجيش عن تحقيق النصر في أيّ حرب جديدة في مواجهة المقاومة وتآكل قدراته الردعية أمامها…

هذه الأزمة التي يعاني منها جيش الاحتلال «الإسرائيلي» بدأت تعبّر عن نفسها في مؤتمرات مراكز الأبحاث «الإسرائيلية» التي أصبح جلّ همّها تشخيص هذه الأزمة والبحث عن سبل الخروج منها، لكن دون جدوى، لأنّ المشكلة التي ليس لها حلّ أبداً والتي لا يدركها قادة كيان الاحتلال إنما تكمن في كيفية إقناع الجيش «الإسرائيلي»، ضباطاً وجنوداً، بأنه يملك الإيمان والقدرة على تحقيق النصر إذا ما ذهب إلى خوض حرب جديدة في مواجهة المقاومة… وفقدان الإيمان، ليس له علاقة بقدرات الجيش العسكرية، الذي يملك أحدث الأسلحة في الجو والبرّ، وإنما في انعدام الوعي، حسب توصيف مركز أبحاث الأمن القومي الصهيوني في مؤتمره الأخير الذي أقرّ بعجز القوة «الإسرائيلية» عن شنّ الحرب وعدم استعداد الجمهور «الإسرائيلي» دفع ثمن الحرب وتأكيده بأنّ الجيش «الإسرائيلي» في «حالة خطرة ولديه مشكلة في الوعي».. وفي هذا السياق رأى اللواء غولاني انّ «اعتبار سلاح الجو هو الأساس أمر خطير»..

هذه الخلاصة التي توصل إليها المؤتمر لها دلالات غاية في الأهمية، فهي من جهة تعكس طبيعة الجمهور «الإسرائيلي» الذي ليس لديه الاستعداد لتحمّل ايّ خسارة مادية أو بشرية، وهذا يؤكد حقيقة أنه ليس لديه الإيمان ولا القناعة بأنه على حق أو يدافع عن قضية عادلة حتى يقدّم التضحيات في سبيلها، ما يعني أنه يقرّ بقرارة نفسه انه معتد، ومن جهة ثانية تظهر الصورة الحقيقية للجيش «الإسرائيلي» بأنه غير مستعدّ لخوض القتال الجدي في مواجهة مقاومين أشداء مستعدّين للشهادة، على عكس الجنود الصهاينة الذين يخافون الموت، وتكشف أيضاً بأنّ انتصارات هذا الجيش عام 1948 وعام 1967 لم تكن بفعل قتال فعلي في الميدان، بقدر ما كانت انتصارات سهلة نتيجة تخاذل الأنظمة العربية، وعدم استعدادها لمقاومة الجيش «الإسرائيلي» على غرار جنوب لبنان وقطاع غزة… ومن جهة ثالثة تؤكد فقدان الروح المعنوية لدى الجيش «الإسرائيلي» والتي يزيد من فقدانها الحرب النفسية المستمرة التي يشنّها أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في خطاباته ومقابلاته التي تنقلها وسائل الإعلام الإسرائيلية، حتى بات الرأي العام «الإسرائيلي» يصدّق ما يقوله السيد نصرالله، فيما لا يصدّق هذا الرأي العام قياداته… وآخر اعترافات وسائل الإعلام «الإسرائيلية» بنجاح السيد نصرالله، في اختراق الوعي الجمعي لمجتمع الكيان الصهيوني، ما عرضته قناة «كان» في التلفزيون الإسرائيلي من برنامج يسلط الضوء على المزايا القيادية للسيد نصرالله ومستوى الخطورة التي تجسّدها قيادته للمقاومة على الكيان «الإسرائيلي».. على أنّ الاعترافات التي أدلى بها مسؤولون «إسرائيليون» في البرنامج جاءت لتؤكد أنّ السيد بات بنظرهم «العدو القاسي والتهديد الأشدّ الذي لا عدو مثله يشغل الجمهور في إسرائيل وحظي باهتمام لدينا لم يحظ به أيّ زعيم عربي. نحن الإسرائيليين نصغي إليه ونصدّقه وهو يعلم هذا ويستغله على نحو ممتاز لزرع الخشية فينا إلى حدّ الرعب». واعترفوا أيضاً بعمق معرفة السيد نصرالله وخبرته بـ «إسرائيل» و»أننا سقطنا في فخه الإعلامي وسمحنا له بزرع الشعور بالشك لدى الكثيرين من الجمهور «الإسرائيلي» عندما كنا نبث بشكل حي خطاباته، كأنه خطاب وزير خارجية إسرائيل أو وزير الأمن أو رئيس الحكومة»…

انّ هذا النجاح للمقاومة في إضعاف ايمان الجيش الإسرائيلي بقدرته على تحقيق النصر والإقرار بالعجز في مواجهة المقاومين، وكذلك النجاح في اختراق عقل الجمهور «الإسرائيلي» والتأثير عليه، لم يكن ليتحقق لولا الانتصارات المتتالية للمقاومة على الجيش الإسرائيلي والمصداقية التي انتزعها قائدها السيد نصرالله والنابعة من ترجمة أقواله إلى أفعال… لهذا كله فإنّ كيان العدو الصهيوني جيشاً وجمهوراً وقيادة دخل في مأزق استراتيجي وتكتيكي ويعاني من قلق متزايد من المستقبل وعلى المشروع الإسرائيلي الذي أصبح يفتقد إلى عناصر القوة التي أمنت له في المراحل السابقة للصراع، التقدّم والاستقرار والأمان للمستوطنين، الذين هاجروا إلى فلسطين، ولهذا يزداد قلق دوائر صنع القرار في الكيان الصهيوني من الأزمة التي باتت تضرب الجيش الإسرائيلي في الصميم نتيجة عدم اقتناعه بأنه يستطيع مواجهة المقاومين الذين هزموه في جنوب لبنان وقطاع غزة، وتحقيق النصر عليهم، ولهذا لم تعد هناك حماسة للذهاب إلى الحرب، ويفضل الاعتماد بشكل أساسي على سلاح الطيران الحربي في أيّ حرب مقبلة…

كاتب وإعلامي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى