سورية في مواجهة حرب الاستنزاف والإرهاب بوظيفته الجديدة
العميد د. أمين محمد حطيط
مع بداية السنة التاسعة للحرب الكونية التي استهدفت سورية بقيادة أميركية وتبعية متعدّدة الجنسيات والأقطار والأقاليم، ومع الذكرى السنوية لبدء ذاك العدوان الذي فشل في تحقيق أهدافه الرئيسية والذي خسر معظم أوراقه الاستراتيجية السياسية والعسكرية التي كان يؤمل منها فرض إرادته وإسقاط سورية ومحور المقاومة والسيطرة على كامل المنطقة ليحوّلها الى محمية او مستعمرة أميركية كبيرة يستحوذ فيها على احتياط النفط والغاز العالمي ويسيطر على ممرات وشرايين النقل المؤثرة على اقتصاد العالم، مع هذه البداية وتلك الذكرى يبدو المشهد لسوري اليوم مختلفاً عما يشتهيه أرباب العدوان، ويختزن أموراً تتطلب من المدافع سعياً وجهداً مهماً لإعادة الوضع الى ما كان عليه قبل العدوان.
ففي الإطار الاستراتيجي العام، يكون موضوعياً القول بأنّ العدوان على سورية أخفق في تحقيق ما رمى إليه، وبات واضحاً بأنّ من الاستحالة بمكان القول بأنّ هناك إمكانية طرح خطط بديله تمكن المعتدي من معالجة الفشل، لكن وبشكل موضوعي أيضاً نقول إنّ المعتدي لم يستسلم للنتائج، ولم يسلّم لسورية بانتصارها وانتقل حقيقة من استراتيجية إسقاط سورية، الى استراتيجية أخرى قد تسمّى «استراتيجية تعطيل استثمار الانتصار او إفراغ الانتصار من محتواه»، وهو أمر عبّرت عنه أميركا بكلّ فجور ووقاحة بعبارة «إطالة أمد الصراع».
أما في التنفيذ فإنّ «إطالة أمد الصراع» كما تراها أميركا تعني بالنسبة لها العمل على محاور أربعة متساندة او ذات تأثر متبادل، المحور الأول، ميداني ناري، الثاني ديمغرافي إنساني، الثالث اقتصادي عمراني، ومحور أخير هو المحور السياسي المتصل بالاستقرار النهائي في الدولة وفي الترجمة لهذه المحاور نصل الى انّ استراتيجية «إطالة أمد الصراع» تنفذها أميركا عبر ما يلي:
ـ منع الاستقرار الأمني ومنع الدولة السورية من استعادة سيطرتها على ما تبقى من أرض يسيطر عليها الآن احتلال أجنبي مباشرة او بالوكالة، او ينتشر فيها إرهاب يفسد أمنها.
ـ منع عودة النازحين السوريين من الخارج والسعي لإطالة مدّة إقامتهم حيث هم الآن في دول الجوار، خاصة تركيا ولبنان والأردن تقريباً 6 ملايين كما وعرقلة عودة مهجري الداخل بشكل او بآخر.
ـ منع انطلاق عملية إعادة الإعمار والاستمرار في فرض التدابير الكيدية الإجرامية ضدّ سورية تحت تسمية «العقوبات» واستمرار تصعيد الحرب المالية والاقتصادية على سورية ثم ربط عملية إعادة الإعمار والمساعدة فيه بالحلّ السياسي الذي يعطي العدوان ما عجز عن تحقيقه في الميدان.
ـ منع المصالحة الوطنية، وعرقلة انطلاق العملية السياسية التي تفضي الى حلّ يحفظ لسورية وحدتها واستقلالها وسيادتها، ويصرّ الغرب على تغيير النظام السياسي في سورية ليكون نظاماً طائفياً اثنياً واهناً يعطل ذاته بذاته ويجعل القرار عرضة للتنازع الداخلي الدائم الذي يستعصي على الحلّ انْ لم يتدخل الأجنبي.
على هذه المحاور الأربعة تعمل أميركا بكلّ كيدية ونفس انتقامي عقابي، لتنتقم لخسارتها الاستراتيجية وفشلها في إسقاط سورية ومحور المقاومة ولتمنع من أفشلها من استثمار انتصاره، ولذلك تجد سورية المنتصرة بعد ثماني سنوات من الحرب عليها، تجد انّ انتصارها مستهدف بخطة أجنبية شيطانية تستدعي مواصلة المواجهة لا بل قد تتطلب جهداً أكبر مما سلف لأنّ المحافظة على الانتصار واستثماره عادة تكون أصعب من تحقيقه بذاته، وانّ البوابة لهذا الأمر كما نرى هي البوابة الميدانية التي يؤدّي تشريح وتحليل سلوكيات العدوان فيها الى القول بانّ أميركا عمدت الآن الى:
أولاً: القيام بحرب استنزاف حول إدلب: انّ أخطر ما يمكن التوقف عنده الآن في مسار المواجهة العسكرية مع الإرهاب والاحتلال الأجنبي في سورية هو ما اتجهت اليه الفصائل الإرهابية بعد ان تمكّنت جبهة النصرة من السيطرة على معظم منطقة إدلب، حيث تضرم الآن نار حرب استنزاف الجيش السوري المرابط في محيط المنطقة في وضعية استعداد لتنفيذ عملية التحرير بالقوة انْ استنفدت محاولات التحرير عن طريق مخرجات استانة او اتفاقات سوتشي، التي كما بات يقيناً عند أصحاب الشأن، لن تفضي الى أيّ نتيجة وباتت هناك قناعة ضمنية بانّ العمل العسكري أمر لا بدّ منه، ويدرك الإرهابيون ورعاتهم الأتراك هذه الحقيقة ولذلك لجأت هذه المجموعات ورعاتها الى حرب استنزاف تهدف الى إرهاق التشكيلات العسكرية السورية التي تتحضّر في قواعد انطلاقها الميداني، حرب تؤثر سلباً عليها معنوياً ومادياً بشكل يحول دون تمكنها من تنفيذ العملية في ظروف مؤاتية مضمونة النجاح، كما يؤدّي الى تعطيل الحياة المدنية في المحيط ويمنع الانطلاق في إعادة إعمار المنطقة خاصة في محيط حلب ذات الرمزية الوطنية، وأخيراً تبتغي من هذه الحرب إظهار قوة الإرهاب وشدّ عصب الإرهابيين ومنع الاقتتال الداخلي بينهم بإظهار خطر يتهدّد الجميع، كما قد يكون من شأن الاعتداءات في إطار حرب الاستنزاف هذه نية استدراج الجيش لإطلاق عملية التحرير السورية قبل استكمال تحضير بيئتها السياسية والعملانية.
ثانياً: مراجعة وظيفة «داعش» في سورية والعراق أيضاً والتحوّل من الإرهاب الذي يسيطر على مساحات ويقيم كيانات تحت تسمية «دولة» أو ما شابه، الى الإرهاب المنتشر في خلايا موزعة بين خلايا فاعلة نشطة وخلايا نائمة خامدة، وتحريك المجموعات بعمليات إجرامية تنفذها الخلايا الناشطة وتستعدّ للمزيد منها الخلايا النائمة، وهذا ما عناه ترامب يوم أعلن عن قرار انسحاب أميركا من سورية، وأشار الى مرحلة جديدة من المواجهات مع الإرهاب سيتولاها الحلفاء.
انّ عملية التحوّل هذه، وعملية إعادة انتشار الخلايا الإرهابية التي تعتبر داعش عمودها الفقري تتطلب الوقت والتهيئة الميدانية، ولذلك رأينا كيف انّ اميركا تماطل وتسوّف او تتخذ المواقف الزئبقية حول تاريخ تنفيذ الانسحاب المزعوم وطريقته فلم تحدّد حتى الآن موعداً نهائياً ولم تؤكد ان يكون انسحابها كاملاً بل يبدو أنها تراجعت الى الحدّ الذي جعل من الانسحاب إعادة انتشار بعد تخفيض العدد ستبقي على الف جندي كما سرّبت ، تفعل ذلك لأنها لن تنسحب إلا بعد ان تتيقن من انّ داعش في جهوزها الميداني الجديد قادرة على تنفيذ «حرب الخلايا الإرهابية» التي تربك الوضع الأمني وتمنع عودة الاستقرار وتتكامل مع حرب الاستنزاف التي بدأت في الشمال الغربي السوري.
ثالثاً: الاحتفاظ بالرهائن السوريين في مخيم الركبان وتالياً الاحتفاظ بقاعدة التنف العسكرية الأميركية، لتشكل حرساً للمخيم وحاجزاً مانعاً لحركة الانتقال الحرّ والآمن بين كلّ من سورية والعراق والأردن. ولأجل ذلك تمنع أميركا أيّ مسعى روسي أو سوري لتسوية وضع السوريين في هذا المخيم وتستثني أميركا قاعدة التنف من قرار الانسحاب.
وهكذا نرى في بدء السنة التاسعة للعدوان على سورية، ان الحرب على سورية وبعد الانتصارات الاستراتيجية الكبرى التي حققتها سورية وحلفاؤها تغيّر شكلها اليوم وانتقلت الى حرب استنزاف في الشمال الغربي، وحرب خلايا إرهابية مقرونة بوجود أميركي احتلالي يحرسها في الشمال الشرقي، مع الإمساك برهائن في الجنوب الشرقي يمنع استعادة الوضع الى طبيعته.
انّ هذا الواقع المستجدّ سيفرض على سورية وحلفائها في محور المقاومة وروسيا التعامل معه بكلّ جدية حذر، لتلافي المخاطر التي يشكلها على الوضع برمّته، تعامل مركب سيكون العمل العسكري في إدلب والمقاومة المخدومة بعمل عسكري في الشرق أساساً فيه، وهو أمر تدركه أميركا وتعلم كما يبدو انّ سورية لن تصبر طويلاً على هذا الحال ولن تتقبّل فكرة دفعها او انزلاقها الى حرب استنزاف حول إدلب وانها لا بدّ عازمة على الخروج من الوضع بحسم عسكري بات ملزماً لها، لأجل ذلك عادت أميركا الى نغمة الأسلحة الكيماوية وحرّكت القديم منها وتحضّر لمسرحيات مستقبلية منها لتتخذها ذريعة من أجل التدخل المانع لسورية من إطلاق عمليتها التحريرية في إدلب، ولكنني أعتقد انّ سورية وحلفاءها لن يخضعوا للابتزاز او الترهيب الأميركي وانها مع الحلفاء لن تصبر على حرب الاستنزاف ولن تقبل بتجميد استثمار الانتصار.
أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي