الاغتيالات وسيلة حرب دائمة ومفتوحة في الاستراتيجية «الإسرائيلية» ـ الأميركية
شكلت زيارة الرئيس اوباما للدول الآسيوية فرصة ملائمة لوضع تداعيات الهزيمة الانتخابية خلفه، مع إدراكه وقادة حزبه الديمقراطي ان الاغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ بلغت 53 وقد تصبح 54 مقعداً عند الانتهاء من فرز نتائج الانتخابات في ولاية لويزيانا.
شهدت سورية عملية اغتيال مشينة لخمسة من علمائها العاملين في حقل الطاقة النووية، حسب وصف وكالات الإعلام، مما يعيد تسليط الأضواء على الدور «الاسرائيلي» في حرمان العالم العربي الاستفادة من كفاءاته العلمية للنهوض بالمجتمع.
سيتناول قسم التحليل هذا الأمر سوية مع برامج الاغتيالات الاميركية ايضاً للكفاءات العلمية الأجنبية التي لم تستطع استقطابها والهجرة اليها بالرغم من سبل الترغيب والتسهيلات الجمة المقدمة.
السياسة الاميركية في المنطقة
اعتبر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ما تواجهه الولايات المتحدة من «تخبّط في سياستها الشرق اوسطية دلالة على عدم التوافق بين القيم السامية والمتطلبات العملية… اذ انها لم تحافظ على مثاليتها فحسب، بل ابقت على سذاجتها» في التعامل مع المتغيّرات اليومية المتسارعة. واشار الى حالة الاحباط الواسعة بين اطراف «دول الخليج العربي» الذين حذروا واشنطن من خطر تنظيم «الاخوان المسلمين» بينما «اصرّت واشنطن على غض الطرف عن تهديده» للمصالح المشتركة. واضاف ان انصار التوجه البراغماتي يدركون «الفوضى الناجمة عن التغيير السياسي المفاجئ، بل يمكن التنبّؤ به وبأبعاده، اما حرص الولايات المتحدة على تبني تلك التغييرات فانه يدلّ إلى افتقارها للوعي التاريخي او التفكير الاستراتيجي».
اعرب معهد واشنطن عن اعتقاده بأنّ التطورات الداخلية والخارجية «ستترك تداعياتها على السياسة الاميركية حيال اسرائيل»، لا سيما ان العلاقة المشتركة القائمة بينهما يسودها التوتر راهناً. وتطرّق إلى تحديد عدد من عوامل المتغيّرات خاصة «الاتفاق النووي المرتقب مع ايران، وتركيبة الكونغرس بأغلبية للجمهوريين، أعمال العنف في القدس، وانتخابات حزب الليكود التي ستجري يوم 6 كانون الثاني المقبل ومن شأنها حفز رئيس الوزراء نتنياهو الى الاصطفاف جانب اليمين».
سورية
أعرب معهد الدراسات الحربية عن امتعاضه من «مكاسب جبهة النصرة الأخيرة» في سورية، مما شكل «انتكاسة للأهداف الأميركية بتسليح المعارضة السورية المعتدلة». وأوضح انّ محصلة تلك المكاسب قدرتها على «تحييد القوات المؤيدة للجيش الحر في محافظة ادلب»، التي يتزعّمها جمال معروف. واضاف ان مجموعة جمال معروف وحركة حزم اللتين تلقتا هزيمة في المواجهة «يبدو انهما يلقيان دعماً اميركياً سرياً بتوفير الصواريخ المضادة للدروع»، من طراز تاو.
الصراع الطائفي
لفت معهد كارنيغي النظر الى جملة الأزمات التي يواجهها العراق «فضلاً عن المسألة الطائفية». واوضح انّ السياسة الراهنة بتحديد «هويات ما دون الهوية الوطنية لم تسفر عن استفادة مجموعة بعينها. اذ انّ معدلات الفقر وعدم المساواة طالت شرائح واسعة من العراقيين..». واضاف ان محافظات «المثنى وبابل وصلاح الدين… تعاني من الفقر المدقع» والشعور العام بين اوساط الشعب العراقي بتدهور مستوى معيشته، وسجّل عام 2011 «اسوأ انخفاض في مستوى المعيشة عن السنوات السابقة».
ايران
تناول مركز السياسة الأمنية ما اسماه «استماتة الرئيس اوباما في التوصل الى صيغة اتفاق» مع إيران حول ملفها النووي. واوضح ان «تسليم إدارة الرئيس أوباما بتخصيب إيران لليورانيوم جائر وفاقد الضمير… وشكل مغامرة غير مسبوقة للأمن القومي الاميركي والدولي منذ البداية». ومضى في اعتراضاته بالقول ان «مسؤولي الادارة دأبوا على تقديم التنازل تلو الآخر لطهران خلال المفاوضات النووية العام الماضي، مما مهّد الارضية لإنجاز اتفاق نهائي من شأنه ان يثبت عطب الديبلوماسية» الاميركية.
نبّه معهد كارنيغي الفريق الاميركي المفاوض الى انه تنبغي الخشية من جهود ايران «ليس في بعد حصولها على سلاح نووي، بل تسلله إلى الخارج». واوضح ان تركيز المفاوضات على «تخفيض عدد اجهزة الطرد المركزي في نطانز هو هدف جدير بالاهتمام، بيد انه يصبح أقلّ أهمية امام قبول ايران لإجراءات تفتيش اقتحامية الطابع بغية الكشف عن اي منشآت سرية والتي بإمكانها صنع السلاح النووي في المستقبل». واضاف انه ينبغي تشديد نظام التفتيش بما يتضمن «موافقة ايران على توفير سماح مفتوح لوكالة الطاقة الدولية واستخراج عينيات بيئية من اي مكان عمومي تستطيع الوصول اليه في البلاد». واردف انه بوسع ايران ايضا «السماح للوكالة الدولية مراقبة المواد غير النووية والتي تستخدم في انتاج المواد الخام لعملية التخصيب للتيقن من عدم توريد اجهزة الطرد المركزية بشكل سري».
توطئة
تجدّد عمليات اغتيال علماء الطاقة النووية السوريين، مطلع الاسبوع، هو محور الموضوع قيد التداول، وتسليط الأضواء من جديد على «سياسة اسرائيل في استخدام الاغتيالات لشنّ حرب بوسائل اخرى»، وعنصراً رافداً لسياستها الخارجية فضلاً عما تؤشر عليه من استهداف الكفاءات الفكرية والعلمية كأحد محطات الحرب غير المتماثلة، وما تتركه من تداعيات تغذي الحرب النفسية ضدّ الشعوب العربية والايرانية تمارسها عبر اجهزتها العسكرية والإعلامية على السواء، تلقى اصداءها في الاعلام العربي التابع.
تعرضت حافلة مدنية، يوم الاثنين 10/10/2014، تقل بضعة اشخاص في حي البرزة بدمشق الى اطلاق نار مكثف ادى إلى مصرع خمسة افراد، يعتقد انهم من علماء الطاقة النووية في سورية، لا سيما انّ احداً لم يتبنّ عملية الهجوم في منطقة تسيطر عليها الدولة السورية، مما يعزز الاعتقاد بمسؤولية «اسرائيل»، خاصة لما لها من تاريخ ممتدّ في اغتيال العلماء والكفاءات ليس في سورية وايران فحسب، بل كافة العلماء العرب من ذوي اختصاصات علمية رفيعة: العراق ومصر، ولم يسلم منها خبراء ألمان شاركوا مصر والعراق في جهود التصنيع الوطني. كما انها ليست المرة الاولى التي تستهدف فيه سورية وكفاءاتها العلمية، بل سبقت بدء «الازمة السورية» وشهدت تصعيداً مركزاً منذئذ.
جملة اسئلة يتمّ التطرق اليها في بعد اغتيال الكفاءات العربية والايرانية ايضاً، لا سيما في سبر اغوار او تورّط الولايات المتحدة في هذا الشأن، خاصة لاستهداف عدد من الكفاءات العربية جرى تغييبها داخل الاراضي الاميركية، واشهرها العالمة المصرية سميرة موسى التي قضت في «حادث مروري» مشبوه في ولاية كاليفورنيا في آب 1952. وستتمّ العودة إلى هذا البعد لاحقاً في التقرير.
الاغتيالات سياسة ثابتة لـ«إسرائيل»
درجت القيادات الصهيونية المتعاقبة على ارتكاب جرائم الاغتيالات، منذ ما قبل اغتصاب فلسطين وطرد أهلها، وتسخيرها في خدمة سياساتها الخارجية. من ضحاياها آنذاك عرب فلسطين بالدرجة الاولى، وكذلك بعض مندوبي الاستعمار البريطاني، خلال عقد الأربعينات من القرن الماضي، بغية ترسيخ الكيان في الارض العربية. بعض عمليات الاغتيال التي قام بها جهاز الموساد نالت «اعجاب» الوسط الاعلامي الغربي واضفت عليه صفة اسطورية التي فندتها سلسلة من الاخفاقات والفشل المذهل، وبروز المقاومة العربية المسلحة.
الكيان الصهيوني هو الوحيد من منظومة الدول الحديثة الذي اضفى الطابع المؤسساتي على الاغتيالات، في بداية عقد السبعينات من القرن الماضي، دشنته «رئيسة الوزراء غولدا مائير»، باستحداث جهاز خاص بعمليات الاغتيال، «المجموعة اكس»، وتمّ رفدها لاحقا بـ«وحدة قيسارية» من جهاز الموساد لتنفيذ الاغتيالات.
الاهداف الصهيونية لم تقتصر على القادة والكفاءات العربية في فلسطين فحسب، بل امتدّت لتصل الى العواصم العربية الرئيسة، تشهد عليها عمليات اغتيال الكفاءات المصرية والعلماء العراقيين ذوي اختصاصات متعدّدة، لا سيما بعد الغزو الاميركي، وفي العواصم الاوروبية. ومدّت اخطبوطها الى اغتيال العلماء الايرانيين في مجال الطاقة النووية. الفريق المختص بتصفية العلماء الايرانيين في جهاز الموساد يدعى «كيدرون»، او وادي الجوز بالقدس المحتلة، يقع مقرّه في صحراء النقب بالقرب من مفاعل ديمونا النووي.
نجاح عمليات الاغتيال، بالمجمل، لا يعفي تعاون عملاء في البلد المستهدف مع الأجهزة المعادية: منظمة «مجاهدي خلق» في ايران، والمعارضة السورية التي توفر الغطاء السياسي للمنفذ «الاسرائيلي». في الحالة الايرانية تمّ القاء القبض على احد العملاء المحليين ويدعى مجيد جمالي فاشي، الذي أقرّ خلال التحقيق معه بالعمل لصالح الموساد لاغتيال الاستاذ الجامعي في جامعة طهران مسعود علي محمدي، في كانون الثاني 2011، لقاء مبلغ 120,000 دولار تسلمها من مشغليه في جهاز الموساد.
اعلنت الحكومة الايرانية عن اغتيال خمسة من افضل الكفاءات العلمية لديها، منذ عام 2007، على خلفية نشاطاتهم العلمية والريبة من اشتراكهم في برنامج ايران النووي.
يذكر انّ تلك الاغتيالات لقيت «ارتياحاً واسعاً لدى المؤسسات الاميركية، الرسمية والعامة على السواء»، مما يؤشر على «ضلوع» وكالة الاستخبارات المركزية، بشكل او بآخر، في تصفية العلماء. وبلغت الصراحة العلنية درجة الصفاقة في تصريح السيناتور السابق عن ولاية بنسيلفانيا، ريك سانتورم، بوصفه الاغتيالات «رائعة» وترسل رسالة الى العاملين في البرنامج النووي الإيراني بأنّ سلامتهم الشخصية مهدّدة.
واضاف سانتورم «اعتقد انه يتعيّن علينا ارسال رسالة بالغة الوضوح للعلماء في روسيا، او كوريا الشمالية، ام في ايران بأنّ استمرارهم العمل في البرنامج النووي لانتاج قنبلة نووية لايران، سيسفر عن سلامة شخصية غير آمنة». رئيس مجلس النواب الاميركي آنذاك، نيوت غينغريتش، شاطر سانتورم في قراءاته واستنتاجاته وتصريحاته.
افاد تحقيق نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، 10 تشرين الثاني 2014، ان وكالة الاستخبارات المركزية كانت على علم مسبق بعملية تفجير حافلة كانت تقل 11 عنصراً من الحرس الثوري عام 2007 اسفرت عن مصرعهم جميعا. استند التحقيق الى ملاحظة عابرة سبقت ذلك التاريخ عثر عليها في أحد ملفات الوكالة تحذر من «حدث كبير على وشك الوقوع في ايران»، على أيدي مجموعة «جند الله»، وقادت الى صاحبها ضابط سابق في الاستخبارات.
واضاف التحقيق ان مصدر الملف المذكور كان «ضابط استخبارات في هيئة مراقبة الموانئ لمدينة نيويورك ونيوجيرسي… يدعى توماس ماكهيل، العضو في قسم مكافحة الإرهاب في مكتب التحقيقات الفيدرالي»، تعرف على مخبر «بالوشي» «يتلقى راتباً شهرياً من مكتب التحقيقات منذ عام 1996 ويقطن في منطقة نيويورك».
واوضحت الصحيفة ان «ماكهيل… اُرسل إلى افغانستان وباكستان بغية تنظيم مخبرين داخل قيادة جند الله والذين تم اخضاعهم لإشراف مشترك لمكتب التحقيقات ووكالة الاستخبارات المركزية… ولاحقاً استبدل مكتب التحقيقات بوزارة الدفاع الاميركية». اللافت ان مجموعة «جند الله» تم ادراجها على قائمة المنظمات الارهابية من قبل الولايات المتحدة، بيد ان «التنسيق مع المخبرين بداخلها لم ينقطع… واستمرت العلاقة قائمة حتى في ظل نفي متكرّر من قبل الرسميين الاميركيين لأي علاقة» مع المجموعة الارهابية.
واردفت الصحيفة ان بضعة مسؤولين اميركيين سابقين وحاليين «اكدوا العلاقة القائمة بين الاجهزة الاميركية ومجموعة جند الله»، وفق توصيف تطور الاحداث اعلاه. اما المخبر البالوشي فقد كُلِّف بإيصال ماكهيل الى شبكة اصدقائه وعائلته في اقليم بالوشيستان، الذي «يضم عائلة ريغي احدى كبريات عشائر البالوش» في الشطر الايراني من الاقليم وتم تأسيس «جند الله عام 2003 للقتال ضد الحكومة الايرانية».
ورغم نفي الاجهزة الامنية لأي علاقة مع ماكهيل، الا انه حصل على وسام تقدير من قسم العمليات الايرانية في وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية عام 2009.
وتجدر الاشارة الى ان تحقيقا خاصا نشر في يومية «فورين بوليسي»، 13 كانون الثاني 2012، أكد إقدام الموساد على انتحال صفة منتدبين من وكالة الاستخبارات المركزية وحمّلوا جوازات سفر اميركية بغية تشغيل مجموعات من «جند الله» من الباكستانيين في لندن ضمن حملة الاغتيالات والتفجيرات التي أدارتها وأشرفت عليها في ايران، اضافة لتقرير بثته شبكة سي بي اس الاميركية، في 2 آذار 2014، يفيد انّ مسؤولين اميركيين وعبر قنوات سرية اعربوا «للاسرائيليين» عن رغبتهم بان تتوقف «اسرائيل» عن استهداف العلماء الايرانيين لإفساح المجال للجهود الديبلوماسية أخذ مجراها لوقف البرنامج النووي الايراني اعتبر الأمر تسريباً من داخل ادارة اوباما.
قرأت بعض الاوساط هذه الخطوة كتعبير عن رغبة الرئيس اوباما في تحقيق انجاز بالتوصل لاتفاق نووي مع ايران، وربما حفّزه ذلك على استخدام نفوذه بممارسة ضغط على «اسرائيل» لوقف مسلسل الاغتيالات كوسيلة لطمأنة الجانب الايراني وحثه على تقديم بعض التنازلات. كلفة الاغتيالات بالنسبة «لاسرائيل» باتت مرتفعة خاصة مع تطور وسائل القتال والمقاومة والتصدي الشعبي لها، وربما يفرض عليها ادخال بعض التعديلات للجم اندفاعة مسؤوليها في عمليات الاغتيالات.
يذكر ايضا ان «اسرائيل» عرّضت بعض حلفائها الاوروبيين للتورط في الاغتيالات نظرا لاستخدامها جوازات سفر من تلك البلدان لتيسير تحركات عملائها، فضلا عن كندا واستراليا. وعقب انكشاف أمر فريق اغتيالها المكون من 29 عنصرا في اغتيال الشهيد محمود المبحوح في فندق بدبي، 20/1/2010، واستخدامه جوازات سفر متعددة: بريطانية والمانية وايرلندية وفرنسية، طلبت منها عواصم تلك الدول التوقف عن عمليات الاغتيال والكف عن استخدام جوازات سفر بلدانها المزورة.
مساء يوم 23/3/1990، استفاق العالم على خبر اغتيال عالم كندي اميركي المولد، جيرالد بول، امام بوابة منزله في بروكسيل، اتضح لاحقا انه من ألمع علماء الفيزياء الفلكية، واحد أهم الخبراء في تقنية المدافع طويلة المدى، قيل انه كان يعمل لحساب العراق في انتاج «المدفع العملاق». كونه اميركي المولد يستدعي تدخل الاجهزة الأمنية الاميركية في التحقيق بمقتله، الا ان ذلك تم تجاهله من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي. الاغتيال نفذته «وحدة كيدرون»، وفق تحقيقات يومية «تليغراف» البريطانية، 17 شباط 2010.
جدير بالذكر ان القانون الدولي ينص على حظر الاغتيالات في ازمنة الحرب والسلام، فضلا عن مساسها بسيادة الدول وحقوق مواطنيها. تتحايل «اسرائيل» على النص القانوني بالزعم ان فلسطين ليست دولة ولا ينطبق عليها توخي الالتزام بالقانون الدولي في ما يخصّ الاغتيالات داخل فلسطين او ضدّ الفلسطينيين بل اضافت بمفردها على النص ان لها الحق في ملاحقة «كافة الاعداء الذين يقاتلون ضدّ اسرائيل، وكل ما ينطوي على ذلك».
ذاك الفهم والتفسير يتناقض مع لوائح كافة الدول، بما فيها الولايات المتحدة، التي تغضّ الطرف عن عمليات الاغتيال «الاسرائيلية»، بينما تطلق تصريحات في العلن على نمط «يتعيّن على اسرائيل الادراك ان الاغتيال المستهدف ضدّ الفلسطينيين لا يضع نهاية للعنف، بل يؤجّج وضع متفجر اصلاً مما يعقد جهود استعادة الهدوء».
تاريخ الاغتيالات الأميركية
يعزو بعض المؤرخين تاريخ بدء عمليات الاغتيالات في اميركا الى زمن الحرب الأهلية باغتيال الرئيس ابراهام لينكولن، 14 نيسان 1865، ربما محقا في تأريخ البعد السياسي للاغتيال. بيد ان اغتيال اميركا للكفاءات العلمية في مناطق متعددة من العالم، بما فيها داخل الاراضي الاميركية، تكمن في بطون كتب التاريخ في اغلب الاحيان.
حدد مجمع العلماء النوويين في اميركا تاريخ اغتيال العلماء والعاملين في النشاطات النووية عبر العالم الى ما قبل حقبة ظهور الاسلحة النووية على المسرح الدولي نشرة المجمع 1/12/2012 . وجاء في نشرته عقب اغتيال 4 من علماء الطاقة النووية في ايران ان «… دوافع وهوية الاشخاص الذين يقفون خلف عمليات الاغتيال مبهمة، بيد ان حقيقة حصولها أمر لا يمكن انكاره».
واوضح المجمع ان «استهداف علماء الطاقة النووية يسبق بروز الاسلحة النووية… ويعود الى علماء المانيا النازية لانتاج قنبلة نووية» الذين سعت الولايات المتحدة إلى استقطابهم او تصفيتهم ان لم تنجح الاولى، مؤكداً استهداف الاجهزة الاميركية «لعالم الفيزياء الالماني الفذ فيرنر هايزنبيرغ». ورد على لسان خبير فيزيائي وزميل لهاينزبيرغ، فيكتور وايزكوف، قوله «اعتقد ان افضل السبل في هذا الحال ترتيب عملية اختطاف لهايزنبيرغ اثناء زيارته لسويسرا». ومن ثم تطورت العملية الى اغتيال فاضح بعد عام ونصف على كتاب وايزكوف المذكور.
الابرز في الوعي العام هو الاغتيالات السياسية التي قامت بها الولايات المتحدة عبر العالم، مما حدا بمدير وكالة الأمن القومي ابان عهد الرئيس ريغان، ويليام اودوم، الى القول «نظرا لأن لدى الولايات المتحدة عينها سجلا طويلا في دعم الارهابيين واستخدام اساليب ارهابية، فشعارات اليوم المنادية بالحرب على الارهاب تضع الولايات المتحدة في موقف المنافق في نظر العالم كافة». ووصفت صحيفة «واشنطن بوست» الولايات المتحدة بأنها «دأبت ولزمن طويل على تصدير الارهاب..». 26/8/2010 .
المسؤول السابق في وزارة الخارجية والمختص في التاريخ العسكري، ويليام بلوم، يرجح ان الولايات المتحدة مسؤولة عن نحو «50 محاولة اغتيال لزعماء احزاب سياسية» عبر العالم منذ الحرب العالمية الثانية، منها ما نجح كاغتيال المناضل باتريس لومومبا في الكونغو، وفشل اجهزة الاستخبارات الاميركية في 8 محاولات لاغتيال الزعيم الكوبي فيديل كاسترو. واضاف في مؤلفه الاخير «وأد الأمل»، ان وزارة الخارجية «أقرت في شهر كانون الاول 2013 بتفويض من الرئيس الاسبق دوايت ايزنهاور لعملية اغتيال لومومبا، ووفر مدير وكالة الاستخبارات المركزية آلان دالاس مبلغ 100,000 دولار لانجاز مهمة الاغتيال».
واثر تداول مسؤولية الولايات المتحدة عن عدد من عمليات الاغتيال في وسائل الاعلام، شكل الكونغرس «لجنة تشيرتش» السيناتور فرانك تشيرتش ، 1975، لعقد جلسات عامة والاستماع لشهادات المسؤولين والخبراء، «لدراسة عمليات الحكومة الرسمية الخاصة بالنشاطات التجسّسية». افضت الى اصدارها توصية تطالب الحكومة الاميركية بوقف استخدامها للاغتيالات كوسيلة وجزء من السياسة الاميركية. وما لبثت تلك السياسة ان استعادت حرارتها في ظل اجواء الترهيب عقب تفجيرات الحادي عشر من أيلول 2001. وجاء في تقرير لاسبوعية «ذي اتلانتيك»، 18/7/2012، ان الرئيس جورج بوش الابن «وافق على السماح لوكالة الاستخبارات المركزية انشاء وحدة اغتيالات بالغة السرية لتحديد مكان واغتيال نشطاء تنظيم القاعدة». واضافت ان برنامج الاغتيالات تم حجبه عن لجان واعضاء الكونغرس لنحو 7 سنوات»، 2009، إلى حين عقد جلسة استماع لمدير وكالة الاستخبارات آنذاك ليون بانيتا الذي «كشف عن قيام وكالته بتوظيف شركة الأمن الخاصة بلاكووتر للمساعدة في تنفيذ المهام». الأمر الذي شكل «المرة الاولى التي تقوم فيها الحكومة الاميركية الاستعانة بشركة خاصة لتنفيذ الاغتيالات السرية».
بعبارة اخرى، أمِلَ جورج بوش تشكيل درع لحماية نفسه من المساءلة، في حال الفشل، واودع المسؤولية بيد وكالة الاستخبارات لتقرر هي من سيتم اغتياله. واضاف تقرير «ذي اتلانتيك» ان بعض المتعاقدين مع شركة بلاكووتر، واعضاء سابقين في جهاز القوات الخاصة، اوضحوا «قيام الشركة بتنفيذ عمليات الاغتيال في افغانستان منذ عام 2008».
ورث الرئيس اوباما وحدة الاغتيالات المذكورة، وتدخل عام 2010 لدى القضاء الاميركي بعدم المضي في مقاضاة بعض مسؤولي «بلاكووتر» بتهم الاتجار بالاسلحة «خشية تعريض الأمن القومي للخطر». ومضى اوباما على خطى سلفه وصادق على عقد جديد مع الشركة قيمته 250 مليون دولار «لتأدية خدمات غير محددة لوكالة الاستخبارات المركزية». كما شهدت تلك الفترة من حقبة اوباما الاستعانة بشكل مكثف بطائرات الدرونز لرفد عمليات الاغتيال التي اضحت «نموذجا طبيعيا جديدا» في ثوابت السياسة الاميركية.
كما اقتدى الرئيس اوباما بسياسات سلفه لتقنين سياساته المثيرة للجدل، وتحايل على القانون العام الساري الذي يحظر الاغتيالات، كما اسلفنا. واستنجد بوزارة العدل ايضا التي اصدرت كتاباً يحدد «المبررات القانونية لاغتيال مواطنين اميركيين في الشرق الاوسط»، في اعقاب استهداف انور العولقي في اليمن ونجله من بعده، واللذين يحملان الجنسية الاميركية. وجاء في «تبرير» وزارة العدل انه يحق للرئيس اصدار امر لشن عملية تفتك بمواطن اميركي ثبت التيقن من موقعه «كـزعيم عملياتي كبير» في تنظيم القاعدة او المجموعات المنتسبة اليها.
حرب غير متماثلة تستهدف الموارد البشرية للآخرين
تتماثل سياسات الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في شراكة التخلص الجسدي من الكفاءات العلمية والقيادات الواعدة للشعوب، لا سيما في العالم العربي وكل من لا يمتثل لهما. وتفوقت الولايات المتحدة على «شريكتها» لاستنزاف الكوادر العلمية عبر تقديم عروض مغرية بالهجرة والاقامة في اراضيها. وتشهد استقطاب العلماء الالمان عقب الحرب العالمية الثانية على الدور الرئيس والمميّز «للمهاجرين» في صنع التقدم التكنولوجي لاميركا، التي تبذل كلّ ما في وسعها لحرمان بلادنا من خيرة العقول والكفاءات.
واضحت عملية الاستقطاب ركيزة ثابتة في السياسة الاميركية، لا سيما في استهداف ذوي المواهب العلمية الواعدة من خارج اراضيها، الذين يرجع لهم الفضل الاوفى في «مجالات البحوث العلمية والنظرية بمستوى يفوق اي بلد آخر على نطاق العالم».
وجاء في تقرير صادر عن «المؤسسة الوطنية للعلوم» ان الجزء الاكبر من العاملين في حقول العلوم والهندسة بكافة اشكالها في الولايات المتحدة «مواليد خارج الاراضي الاميركية». اذ ان «عملية المقارنة لسوق العاملين حملة الشهادات الجامعية في كافة المعاهد التعليمية… تشير الى اختلال لصالح المواليد الاجانب». واشارت نتائج دراسة مسحية للمجتمع الاميركي اجريت عام 2011 الى ان نسبة العاملين في حقول الهندسة والعلوم من الاجانب تفوق 26 في المئة من مجموع حملة الشهادات الجامعية في عموم الولايات المتحدة. كما اوضحت ان ما ينوف عن 43 في المئة من المنتسبين لتلك الحقول والحاصلين على شهادات دكتوراه متقدمة هم من المواليد الاجانب ايضا.
تخصص الحكومة الاميركية موارد مالية معتبرة لتمويل هجرة العلماء من الدول الاجنبية، وتعتبرها إحدى اولوياتها، وتوفر التسهيلات القانونية لتيسير الهجرة. واستثمرت الحكومة مبالغ طائلة خلال العقود الستة الماضية في مجال الابحاث الاكاديمية، مما انعكس على تميّز معاهدها العلمية في استقطاب افضل العقول والمواهب في كافة ارجاء العالم. بعد نجاح هجرة هؤلاء تمضي الحكمة الاميركية في توفير مزيد من التسهيلات والاغراءات لهجرتهم الدائمة الأمر الذي استفاد منه نحو 2/3 مجموع العلماء والمهندسين الاجانب وانخرطوا في المجتمع الاميركي كمواطنين.
الظروف الاقتصادية الصعبة في بلادنا العربية وسوء توزيع الثروة وشحّ الاستثمارات العلمية حفزت اعداداً متوالية من طلبة العلم والمتفوقين على التوجه غرباً يقصدون الولايات المتحدة، ويحرم بلادنا من الاستفادة من ادمغة مثقفيها، في اغلب الاحيان. وعند فشل اسلوب الترغيب تستخدم «اسرائيل» سلاح الاغتيال للكفاءات. انها حرب دائمة مستدامة لكن كلفتها اقلّ دموية.