المرأة في بلادي ينبوع الخير والعطاء والأمّ واحة النبت الصالح الذي نما بالعناية
اياد موصللي
الأمّ هي العطاء السخي وهي الأخت والصديقة والأنيسة والمعلّمة والمربّية الفاضلة والقدوة الحسنة، وهي العطف حين تقسو الحياة، والأمّل حين يعمّ اليأس.
الأمّ هي العطاء الذي لا ينضب، والحب بلا شروطٍ ولا قيودٍ ولا خوفٍ ولا تردّد، والدافع الذي يلوّن الحياة ويعطيها معنى، وهي المضحية التي ترضى بالقليل ليحصل أبناؤها على الكثير، وهي الخبيرة الاجتماعية التي تستمع إلى همومك وشكواك دون تذمّرٍ بل تظلّ حائرةً وقلقةً على أبنائها وتودّ لو تفعل أيّ شيءٍ لتزول مشاكلهم، وليتخطوا عواقب حياتهم، ويعدّ دور الأمّ مهماً جداً فهي حين تنتج جيلاً من الأبناء عليها أن تكون واعيةً فتربّيهم بالطريقة الفضلى، ولعلّ التربية من أكثر الأدوار حساسيةً على الإطلاق. وأعطتها الديانات السماوية ما تستحق.
وقد أفرد الإسلام للأمّ مكانةً خاصة، فقد رُوِيَ عن الرسول أنه قال: «أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك»، في إشارةٍ إلى عظمة مكانتها وقوة تأثيرها ووجوب برّها، وقد قيل أيضاً إنّ رضا الله من رضا الوالدين. وقد كرّمت الأديان المرأة وأعطتها الحقوق. لذلك كان احترامها وحفظ ماء وجهها، فهي الأمّ والأخت والإبنة والزوجة، وهي الأمّ التي ولدت المسيح من الروح القدس. وما يترتب على كلّ هذه الأدوار التي تلعبها في الحياة من أهميةٍ بالغة. وتختلف الأمّ عن غيرها من الناس، فهم يعطونك مترقبين النتيجة، بينما تعطي الأمّ بلا حدودٍ وبوفرةٍ لأبنائها دون انتظارعائدٍ أو شكرٍ أو تقدير، وإنّ فكرالإنسان يوماً أن يردّ جزءاً مما فعلته أمّه بحقه فإنه لن يستطيع، فسهرُها في الليالي الطوال على راحة أبنائها بدلاً من أن تنام وترتاح، وتحمّلها أعباء حياة أبنائها مجتمعين، وقلقها عليهم وخوفها واهتمامها ورعايتها يجعل من الصعب بل من المستحيل أن يُعاد ولو جزءٌ بسيطٌ من فضلها، ويقال إنّ الجنة تحت أقدام الأمّهات، أيّ أنّ رضاها مفتاح دخول الجنة، وبالرغم من وجود الأب في العلاقة الزوجية والعائلية إلا أنّ الأمّ تتحمّل الأعباء كافةً، وفي أحيانٍ كثيرةٍ يقتصر دوره هو على الإنفاق وتولي المسؤوليات والأعمال خارج المنزل.
وهي كما وصفها الشاعر حافظ ابراهيم الذي قال:
الأمّ مدرسة اذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
والأمّ روض ان تعهْدهُ الحيا
بالرّي أوْرَق ايما إيراقِ
الأمّ أستاذ الأساتذة الألَى
شغلت مآثرهم مدى الآفاق
وقال الأمّام الشافعي:
وَاخْضَعْ لأمّكَ وأرضِها
فَعُقُوقُها إِحْدَى الكِبَرْ
وقال أبو العلاء المعرّي:
العَيْشُ مَاضٍ فَأَكْرِمْ وَالِدَيْكَ بِهِ
والأمّ أَوْلَى بِإِكْرَامٍ وَإِحْسَانِ
وَحَسْبُهَا الحَمْلُ وَالإِرْضَاعُ تُدْمِنُهُ
أَمْرَانِ بِالفَضْلِ نَالاَ كُلَّ إِنْسَانِ
وقال فاروق جويدة قصيدة بعنوان أمي:
في الرّكن يبدو وجه أمي
لا أراه لأنّه
سكن الجوانح من سنين
فالعين إن غفلت قليلاً لا ترى
لكنّ من سكن الجوانح لا يغيب
وإن توارى مثل كلّ الغائبين
يبدو أمامي وجه أمي كلما
اشّتدت رياح الحزن وارتعد الجبين
الناس ترحل في العيون وتختفي
وتصير حُزناً في الضّلوع
ورجفة في القلب تخفق . كلّ حين
يمرّ العمر أسكنها وتسكنني
وتبدو كالظّلال تطوف خافقة
على القلب الحزين
منذ انشطرنا والمدى حولي يضيق
وكلّ شيء بعدها عمر ضنين
صارت مع الأيام طيفاً
لا يغيب ولا يبين
طيفاً نُسمّيه الحنين
ولا ننسى بالذّكر قصيدة إلى أمي للشّاعر محمود درويش: أحنُ إلى خبز أمي
وقهوةِ أمي
ولمسةِ أمي
وتكبر فيَّ الطفولةُ
يوماً على صدر يوم
وأعشق عمري لأني
إذا متُّ
أخجل من دمع أمي
خذيني، إذا عدتُ يوماً
وشاحاً لهدبك وغطّي عظامي بعشبٍ
تعمَّد من طهر كعبك
وشدِّي وثاقي بخصلة شَعرٍ
بخيطٍ يلوِّح في ذيل ثوبك
عساني أصيرُ إلهاً
إلهاً أصير
إذا ما لمستُ قرارة قلبك
ضعيني إذا ما رجعتُ
وقوداً بتنّور نارك
وحبل غسيل على سطح دارك
لأنّي فقدت الوقوف
بدون صلاةِ نهارك
هرمتُ، فردّي نجوم الطفولة
حتى أشاركْ صغار العصافير
درب الرّجوع لعُشِّ انتظارك…
أمّي: هي بداية الربيع والحب والحياة هي التجدّد والاستمرار هي البيت الذي آوي إليه والواحة التي أحلم بها… والوسادة التي أرتاح إليها.
هي الصورة الأولى التي ارتسمت في مخيّلتي، وسترسخ وتنطبع مدى العمر في أعماق نفسي.
هي الأولى والأخيرة في قلبي وضميري، وفكري مدى حياتي.
هي سراج المعابد تفني عمرها سهراً لينعم البيت بنورها، نور الهدى والمحبة والأمّان والسلام.
هي الطمأنينة وراحة البال، هي الهدى والرضا، هي عطف الراعي على الرعية، وعين السماء على الأرض، وابتسامة الطهارة والصفاء، هي الخير والرقة والبركة، تبث الأمّل والصفح والحياة، على رغم الحقد والجوع والشقاء والموت المتعدّد الأشكال والأنواع، وبكلمة واحدة، الأمّ كلمة لكنها الدنيا كلها. والأمّة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بالأمّ لا تستحق الحرية.
وجه أمي هو وجه أمتي…
استطيع أن اشتري كلّ شيء إلّا الوالدين. طيبة الأب أعلى من القمم، وطيبة الأمّ أعمق من المحيطات. حبّ الأمّ هو كلّ شيء، ولا يطمع في أيّ شيء. الأمّ التي تفشل في تربية أبنائها لن تجد أهميّةً في أيّ نجاح آخر. ولا يُلام الإنسان على حبّ أمّه. إنّ أعظم ما تتفوّه به الشّفاه البشريّة هو لفظة الأمّ. الأمّ شمعة مقدّسة تضيء ليل الحياة بتواضع ورقّة وفائدة. حضن الأمّ هو الملاذ الأكثر أماناً هو حضن الأمّ. ليس في الدنيا من البهجة والسّرور مقدار ما تحسّ به الأمّ عند نجاح ولدها.
فهي التي تعطي ولا تنتظر أن تأخذ مقابل العطاء، وهي التي مهما حاولتَ أن تفعل وتقدّم لها فلن تستطيع أن تردّ جميلها عليك ولو بقدر ذرة صغيرة فهي سبب وجودك في هذه الحياة، وسبب نجاحك، تُعطيك من دمها وصحّتها لتكبر وتنشأ صحيحاً سليماً، هي عونك في الدّنيا. لا توجد في العالم وسادة أنعم من حضن الأمّ، ولا وردة أجمل من ثغرها. أمّي هي النّبع الذي استمدّ منه اسمي وحياتي. لو كان العالم في كفّة وأمّي في الكفّة الأخرى لاخترت أمّي. إنّ مستقبل الطّفل رهين بأمّه. أمّي هي التي صنعتني. لقد كانت أمي امرأةً مدهشة، كانت تضمّ كلّ ما في الأرض من طِيبة. كلّ ما أنا وكلّ ما أريد أن أكونه مدينٌ به لأمّي. إن صَغُر العالم كلّه فالمرأة تبقى كبيرة.
إنّ صلوات الأمّ الصّامتة الرّقيقة لا يمكن أن تضلّ طريقها إلى ينبوع الخير. الأمّ شمعة مقدّسة تُضيء ليل الحياة بتواضع ورقّة وفائدة. الأمّومة هي حجر الزّواية في صرح السعاده. ما يتعلّمه الطّفل على ركبتي أمّه لا يُمحى أبداً. لم أطمئن قط إلّا وأنا في حضن أمّي. من روائع خلق الله قلبك يا أمي. حينما أنحني لأقبل يديكِ وأسكب دموع ضعفي فوق صدرك وأستجدي نظرات الرضا من عينيكِ، حينها فقط أشعر باكتمال رجولتي. أمي أنت أقدس الأحياء. في العالم. ليس في الدّنيا فرح يعادل فرح الأمّ عندما يحالف ابنها التّوفيق. ابحث في قلب أيّة امرأة تجد أمّاً. حبُّ الأمّ لا يشيخ أبداً. الأمّ هي كلّ شئ في هذه الحياة هي التّعزية في الحزن، الرّجاء فى اليأس والقوة في الضّعف. قلب الأمّ كعود المسك كلما احترق فاح شذاه. إذا صغر العالم كله فالأمّ تبقى كبيرة.
ولعبت المرأة في تاريخ بلادنا دوراً هاماً بارزاً وسجلت مواقف تركت أثراً مهماً.. وأبرز نساء بلادنا زنوبيا.. ملكة تدمر.. تمكّنت مع زوجها من قيادة عصيان على الأمبراطورية الرومانية وسيطرت على معظم سورية واعتلت العرش.
ولدت زنوبيا في تدمر واعتلت العرش نيابة عن ولدها «وهب اللات» وقادت الحكم والشيوخ والحروب، كما قادت أعمال الإعمار والبناء، وأكثر الآثار القائمة حتى اليوم في تدمر، يعود الفضل في تشييدها الى هذه الملكة التي حكمت تدمر منذ اللحظة الأولى التي اعتلى فيها زوجها العرش على تدمر. فلقد كانت بذكائها وقوة شخصيتها قادرة على توجيه الحكم الى حيث رسمت من مجد لتدمر ولسلطتها.
ولقد عثر على آثار لها في الشاطئ السوري وفي الإسكندرية وبعلبك وقرب دمشق. وكانت زنوبيا تشرف بنفسها على عمليات التوسع والإنشاء. وتنتقل على ظهر فرسها تلبس لباس الرجال، تسوس دولتها بعين لا تنام ولا تغفل، وبعزيمة ترهب الرجال، وعلى الرغم من حجم إنجازاتها الحضارية ومن تحركاتها المجهدة، فإنها لم تنس يوماً حلمها بالتوسع في آسيا ومصر وروما، فلقد وصلت جيوشها إلى بيزنطة في العصر الروماني وقتلت هيراكليون قائد القصر. ثم فتحت الإسكندرية، وكانت روما قلقة جداً من توسعاتها الظافرة.
واستطاعت أن تقود قومها إلى نهضة شاملة وقوة عسكرية طامحة، لقد كانت شجاعة بعيدة المطامح. لعبت دوراً كبيراً في الشرق وفي روما ذاتها، وكانت عالية الثقافة تتكلم اللغة التدمرية وهي لغة آرامية، كما تتكلم اليونانية والمصرية، وقربت منها الفلاسفة من أمثال لونجين وكانت مولعة بالتاريخ.
تولت المُلك وعمرها 14 عاماً باسم ابنها وهب اللات، وأصبحت زنوبيا ملكة الملكات وتولّت عرش المملكة وازدهرت تدمر في عهدها وامتدّ نفوذها على جزء كبير من الشرق. مع وجود ألقاب أخرى مثل «الملكة المحاربة» تعتمر زنوبيا خوذة أبوللو حين تحارب مع جيشها التدمري الذي فرض سيطرته جنوباً وشرقاً وغرباً وتلبس الملكة زنوبيا العمامة الكسروية حينما تقابل الوفود في ديوانها الملكي وقد كانت من ربات الفروسية والشجاعة.
توسّعت مملكتها حتى شملت باقي مناطق سورية وامتدّت من شواطئ البوسفور حتى النيل، وأطلقت عليها الأمبراطورية الشرقية مملكة تدمر وأصبحت أهمّ الممالك وأقواها في الشرق على الإطلاق، مما دعا الأمّبراطور الروماني أورليانوس للتفاوض مع الملكة زنوبيا لتأمين حدود امبراطوريته. ولوقف زحف جيوش تدمر مقابل الاعتراف بألقاب ابنها وامتيازاته الملكية.
أصدرت الملكة زنوبيا العملة الخاصة بمدينة تدمر وصكت النقود في إنطاكية وطبعت عليها صورة وهب اللات على وجه وعلى الوجه الثاني صورة الأمبراطور أورليانوس، وأزالت من النقود صورة الأمبراطور مميّزة النقود السورية التدمرية عن نقود روما.
وفي عصرنا الحديث تبرز الأمّ الصامتة المضحية في سبيل رسالة آمنت بها وسارت على طريقها وراء رجل آمنت به زوجاً وأباً وزعيماً وقائداً، إنها الأمينة الأولى زوجة أنطون سعاده. وعندما نكتب عن السيدة جولييت المير زوجة أنطون سعاده لا نتحدث عنها لأنها زوجة الزعيم وأمّ بناته، فهذا أمر عادي إنما نتحدث عنها كونها أماً وأمينة أولى ذاقت العذاب والقهر والاضطهاد.
نكتب عنها امرأة تعرّضت لاضطهاد لم يسبق ان تعرّضت امرأة من بلادنا من قبل لمثل ما تعرّضت له. ولم يقابل مصير يهزّ الضمائر بمثل ما قوبلت به من تجاهل ولا مبالاة. وتصف ابنتها الأمينة أليسار حالة أمّها التي سجنت وهن أطفال وبعد استشهاد والدهم فتقول:
يخطئ من يظنّ انّ رحلة عذاب والدتي التي تفوق كلّ وصف وتصوّر قد عرفت نهايتها بإخلاء سبيلها… لم يسبق أن تعرّضت امرأة في بلادنا وفي شرقنا من قبل لمثل هذا الاضطهاد المبرمج ولم يقابل مصير يهزّ الضمائر بمثل ما قوبلت به من تجاهل ولا مبالاة.
هذه هي المرأة الأمّ الأمّينة الأولى.. التي رغم كلّ ما تعرّضت له حافظت على النبت الصالح. وكما سارت الأمّ على خطى المعلم سارت البنات وأعطين بسخاء فكراً وجهداً وملأت العطاءات الفكرية للدكتورة صفية الكتب والمحاضرات والدراسات. كثيرات هن النساء والأمّهات في بلادي نحتفل بهن ذكرى ووجود ونستعيد اسماء بعضهن رمزاً ومعنى.
ونذكر ما قاله جلال الدين الرومي:
«ليست المرأة معشوقة بل هي نور الحق، أنت في كلّ مكان لأنك من روح الله وفي كلّ زمان لأنك أقوى من الدهر».
«في عيد المرأة والأمّ نستعيد دائماً الإيمان والتقدير والمحبة للأمّ امرأة سخية طوباوية أعطت بسخاء وعاشت بعناء وماتت بهناء الروح…
في كلّ ميدان لعبت المرأة دورها بجدارةٍ ومهارة.
تحية لها في عيدها وكلّ ساعة من عمرها.